تلميذي النجيب، تلقيت رسالتك المفعمة حباً، المتدفقة شعوراً قدرته لك، وإني لأشكرك على جزيل إطرائك لمعلمك وما حصلت من علوم، مباركاً لك نجاحك الذي جاء متفوقاً راجياً أن تواصل رقيك حتى تحط رجلك في جنة ربك... بني كم انتشيت مزهواً بك وبما رصفته في رسالتك من كلمات، بنيت بها الثقة بيني وبينك وأقمت بها للفضائل مناراً، وما كنت أحسب إلا أننا نطعم في القيود صغاراً، فإذا نحن نرفع الأبصار إليكم كباراً، فمنحكم الله مبتغاكم ولن نلقي بالاً لما قال الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، فقد نقل شعور الإحباط وقاك الله الذي أملته عذابات الديار المحتلة أعادها الله لأهلها: شَوْقِي يَقُولُ وَمَا دَرَى?بِمُصِيبَتِي قُمْ لِلْمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجِيلا لَوْ ?جَرَّبَ ?التَّعْلِيمَ ?شَوْقِي?سَاعَةً لَقَضَى?الْحَيَاةَ ?شَقَاوَةً?وَخُمُولا لَكِنْ نصَلِّحُ?غَلْطَةً?نَحَوِيَّةً مَثَلاً?وَنتَّخِذ الكِتَابَ?دَلِيلا مُسْتَشْهِدَين?بِالْغُرِّ?مِنْ?آيَاتِهِ أَوْ?بِالْحَدِيثِ?مُفَصّلا?تَفْصِيلا وَنغُوصُ في الشِّعْرِ?الْقَدِيمِ?فَننْتَقِي مَا?لَيْسَ?مُلْتَبِسَاً?وَلاَ?مَبْذُولا وَنكَادُ?نبْعَثُ?سِيبَوَيْهِ?مِنَ الْبلَى وَذَويِهِ?مِنْ أَهْلِ?الْقُرُونِ الأُولَى فَنرَى?"حِمَارَاً"?بَعْدَ?ذَلِكَ?كُلّه رَفَعَ الْمُضَافَ?إِلَيْهِ وَالْمَفْعُولا بني، لقد عزز أمثالك في أن ما صرف من جهد لم يضع سدى، وان برك بأستاذك يؤكد أن الخير في امتنا إلى يوم القيامة، وها أنت تعيد نثراً ما سطره شوقي شعراً، فلله در لحن الوفاء يأتي على الصدور أحلى من الشفاء: قُمْ للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا كاد المعلّم أن يكونَ رسولا أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي بني وينشئُ أنفساً وعقولا وقد سرني ما أوردت من قصيدة الالبيري في العلم، وما هذا إلا دليل احتفائك به واعتنائك بموارده وجلبها إلى مائدة عقلك، ولعلك تتذكر بيتاً طالما رددناه في الدرس، إذ يقول الشاعر الألبيري مخاطباً ابنه أبا بكر: أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه حظك لو عقلتا إلى علم تكون به إماما مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا ويجلو ما بعينك من غشاها ويهديك الطريق إذا ضللتا وتحمل منه في ناديك تاجا ويكسوك الجمال إذا عريتا ينالك نفعه ما دمت حيا ويبقى ذكره لك إن ذهبتا هو العضب المهند ليس ينبو تصيب به مقاتل من أردتا وكنز لا تخاف عليه لصا خفيف الحمل يوجد حيث كنتا يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا فلا تأمن سؤال الله عنه بتوبيخ: علمتَ فما عملتا فرأس العلم تقوى الله حقا وليس بأن يقال لقد درستا إذا ما لم يفدك العلم خيرا فخير منه أن لو قد جهلتا وإن ألقاك فهمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا ستجني من ثمار العجز جهلا وتصغر في العيون إذا كبرتا وتُفقد إن جهلت وأنت باق وتوجد إن علمت ولو فُقدتا وليس لجاهل في الناس مغن ولو مُلك العراق له تأتى سينطق عنك علمك في ملاءٍ ويكتب عنك يوماً إن كتمتا وما يغنيك تشييد المباني إذا بالجهل نفسك قد هدمتا جعلت المال فوق العلم جهلا لعمرك في القضية ما عدلتا وبينهما بنص الوحي بون ستعلمه إذا طه قرأتا لئن رفع الغني لواء مال لأنت لواء علمك قد رفعتا وإن جلس الغني على الحشايا لأنت على الكواكب قد جلستا وإن ركب الجياد مسومات لأنت مناهج التقوى ركبتا فليست هذه الدنيا بشيءٍ تسوؤك حقبة وتسر وقتا وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إذ حلُمتا سجنتَ بها وأنت لها محب فكيف تحب ما فيه سجنتا وتطعمك الطعام وعن قريب ستطعم منك ما فيها طعمتا وتعرى إن لبست بها ثيابا وتكسى إن ملابسها خلعتا وتشهد كل يوم دفن خل كأنك لا تراد لما شهدتا تلميذي قد توافرت لك أسباب الحياة الكريمة، شباب وفراغ وصحة ومال، فإن استخدمتها في الخير كان الفلاح نصيبك دنيا وآخرة، وإلا دعاك عنفوان الشباب... وانظر كيف يمد الله في أعمار الصالحين لأنهم عمارة الدنيا وبهم تبتهج، وما أظنك من أولئك الذين يحسون بملل الفراغ ويكتوون بناره، فأنا أعرف أن ذكاءك لا يدعك تصرف دقائقك في هزيل، وإنما أنت دوماً تقتنص الصيد وتسعى له، إذ لا يمكن لعاقل وأنت أميزهم أن يكون لديه وقت فراغ فوقت الإنسان السوي كله عمل، ذكر وقراءة وصلاة وعمل يزداد منه خيراً، أو يزود به غيره خيرا، بل إن الوقت لا يكفي لأعمال النابهين، فهم يوظفون الثواني في جني الأرباح فشأنهم الإنتاج لا البطالة، والإحساس بالغبن من صفات العاملين حين تمضي الدقائق بهم بلهاء لا يملؤها شيء من المكاسب أو الزيادة في الرصيد، فعمر الإنسان في ما حصل من عمل وأثمر، وليس في ما أهمل وتعثر، وإلا كانت الخسارة فادحة فهو يعمل جوارحه في ما ينفعه، ليقينه انه إن لم يستخدمه الله استخدمه الشيطان، جنبك ربك دروبه، وطالما ردد عقلاؤنا"إن يومك ما تزداد فيه صلاحاً وإلا فهو ليس من عمرك". وشهرك إن لم تجدك فيه متقدماً إلى الأفضل والأجمل فهو نقصك، وسنتك إن لم تحقق فيها نجاحاً فهي عليك وبال، وعمرك إن لم تعمره بالصالحات من الأعمال كان جيفة قد تحملت نتنها، ألم تسمع قول نبيك صلى الله عليه وسلم"اغتنم خمساً قبل خمس... شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وإني لأرى حاشاك من تسلط عليه الشيطان فأعماه عن كل خير، فلا تمتد يده إلى ما حولها، ولا تتوق نفسه لفطرتها حتى لو نزل بين الجمرات والكعبة بين رهبة ورغبة، فيحذره جاره قائلاً: ألا خشي الشيطان هذا بجوارك وقد تعرض لأبيك إبراهيم؟ قال: كيف أخافه ولم ارمه بحجر فبيني وبينه عهد وحسن جوار... فكانت الطامة الكبرى، إذ بلغ من العمر عتياً ولم يؤدِ فريضة الحج أو يطف بالبيت وهو في جواره قد أظله أمن أقدس البقاع التي يأتيها الخلائق من كل أصقاع العالم، وقد صرفوا الأموال في طلب رضا الرحمن، فأي حرمان هذا وأي غفلة هذه؟ لكن إذا استحكم إبليس في القلب كان من الصعب أن يسلم المكان لمن يزرعه ورداً وريحاناً، وما استحلال القلوب إلا الذي مهد لاستحلال الأرض. واني لأنصحك بأن تجعل لنفسك أهدافاً إستراتيجية عليا، كحفظ القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فالزمن لن يعود بك إلى الوراء لتعوض ما قد أهملت ولات ساعة مندم: "حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون"َ99 -100 المومنون ولعلك تسترجع معي قول ابن مسعود رضي الله عنه ذلك التلميذ النجيب الذي تخرج في مدرسة النبوة"ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه اقترب فيه أجلي ولم يزد فيه عملي". بني، التخطيط في حياتنا أمر مهم ولن يحتاج منك لمعول وشد مئزر، وخروج في الشمس لهدم الجبل، بل كل ما هنالك همة وعزم في تنفيذ المهمات المدونة في مخطط يومك، الذي يبدأ بصلاة الفجر فإن فوتها فاتك كل خير، لأنها المفتاح إلى الارتقاء بالنفس وجني الأرباح، وبعد ذلك ستجد انشراح النفس يدفعك للإقبال على عملك بإخلاص وإنهائه بدقة وإتقان، ولهذا يلزمك وضع أهدافك الأولية في الإنجاز في أول الوقت، إذ النشاط قبل فتور الهمة، ولابد أن تشتمل هذه الأهداف على جوانب تعود على ذاتك وعلى أسرتك بالنفع، سواء كانت روحية وعقلية أو صحية ومهنية ترغب ترقيتها وزيادة تنميتها، بحيث لا تنتهي الإجازة إلا وقد حققت هذه الأهداف التي يجب أن تكون محددة بزمن وكمية، أي قابلة للقياس ممكن التطبيق، كحفظ وجهين كل يوم من القرآن وقراءة عشرين صفحة في الساعة من الكتاب الذي اشتريته، وهكذا وسيشجعك على تحقيق أهدافك الصحبة الصالحة والانضمام للمراكز الصيفية ذات التجربة الطويلة... ولعلي بهذا قد أجبت عن سؤالك لي في رسالتك عن إستراتيجية الإجازة، وفقك الله في العودة سالماً ممتلئاً ثقافة ناقصاً وزناً. [email protected]