مرة أخرى تستوقفني قضيتان، كلما ضربت يد الأمن القوية خلية إرهابية أو أكثر ضمن سلسلة ضرباتها الاستباقية المؤيدة بنصر الله... وهما قضيتا المال، وحداثة سن من اختاروا طريق الفتنة والقتل والتخريب، فدائماً، ومع كل ضربة استباقية تضبط أجهزة الأمن أموالاً وأسلحة، وحواسيب وفيللاً مستأجرة، وهنا أسأل نفسي: من أين يتدفق كل هذا المال لتمويل هؤلاء الناس؟ كلنا نعرف الآن أن مصدر الأموال الهائلة، التي تدفقت على من سموا أنفسهم ب?"المجاهدين"، وسلمنا نحن معهم بهذه التسمية إبان حرب أفغانستان في عهد الحكومات السوفييتية، كان من حملة التبرعات الكبرى ل?"الجهاد"، وقد شاركت الولاياتالمتحدة عبر أجهزة مخابراتها المركزية في هذه الحملة الجهادية، سواء بدعم المجاهدين بالأسلحة أو التدريب، إلا أن الولاياتالمتحدة عادت وبعد تفجيرات أيلول سبتمبر 2001 لتتحدث بلهجة أخرى عن خطورة هذه التبرعات، والمساهمات الداعمة للحركات الإسلامية الجهادية، وعن دور هذا الدعم في تمويل هذه المنظمات لتنفيذ خططها، التي جعلت الآن من حلفاء الأمس أعداءً لها، وهدفاً لحربها على الإرهاب. الغريب في الأمر أن الإدارة الأميركية التي عالجت صدمة تفجيرات"سبتمبر"بطريقة غريزية لم تتجاوز حدود رد الفعل، شنت حملة شعواء على كل المؤسسات والمنظمات والهيئات الخيرية الإسلامية، وقامت بأكبر عملية مصادرة وتجميد لأموالها وأصولها بشبهة تمويل الإرهاب! وكان هذا شكلاً من أشكال رد الفعل الصليبية على كل ما هو إسلامي! ما تناسته الإدارة الأميركية هو أن الإرهاب استهدف السعودية قبل تفجيرات"سبتمبر 2001"في أميركا، وأن أجهزتها الأمنية تخوض هذه الحرب منذ التسعينات من القرن الميلادي الماضي... المملكة إذن هي من طرح السؤال حول مصادر التمويل لهذه الجماعات الإرهابية قبل أن تطرح الإدارة الأميركية هذا السؤال على نفسها. والمملكة ذاتها هي من تنبه إلى ضرورة مراقبة وضبط عمليات جمع التبرعات تحت مظلة الأعمال الخيرية، محذرة من أنها يمكن أن تستغل لتمويل الخلايا الإرهابية. وبعد 11 سبتمبر اكتسبت عقدة التمويل بُعداً دولياً، واتخذت الإجراءات الرقابية الاقتصادية والمالية مسارات مؤسسية نافذة. وهنا أيضاً أبدت المملكة تجاوباً اتسم بالفورية والجدية، وكانت سباقة في تنفيذ ما اتفقت عليه مع المجتمع الدولي، لأنها الأكثر تضرراً من الإرهاب وعملياته التخريبية، وبالتالي كانت الأكثر استشعاراً بمسؤولياتها في محاربته، فأصدرت مؤسسة النقد السعودي تعليماتها الواضحة إلى جميع المؤسسات المالية بتطبيق الأربعين توصية ل فاتف ، بكل حزم في ما يتعلق بتمويل الإرهاب، ما يدل على أن المملكة ترى أن مكافحة الإرهاب مسؤولية جماعية في المقام الأول، لأن الإرهاب أصبح من الجرائم الدولية المنظمة... كما أصدرت"ساما"تعليماتها إلى المؤسسات المالية كافة بمنع تحويل أية معونات مالية عن طريق أية جمعية خيرية إلى خارج المملكة. صحيح أن هذه القناة التي يتغذى عبرها الإرهاب ويمول عملياته التخريبية لم تغلق بالكامل، ولكنها ضاقت على الأقل بمستوى لا يجعلها المورد الرئيس لهذه الخلايا. وبما أننا لم نستأصل شأفة الإرهاب، وهذا ما تدل عليه الضربة الاستباقية الموجهة التي استطاع رجال أمننا أن ينزلوها بخلاياه... فكمية الأموال المضبوطة 20 مليون ريال، والهيئة التي كانت عليها الأوراق المالية، من حيث جدتها، وتسلسلها، ومن حيث عدد ونوع الأسلحة، تدل بوضوح على أننا ظللنا نتعامل مع ما هو ظاهر من جبل جليد الإرهاب، وان ما لم نطله منه حتى الآن هو أكبر بكثير مما وضعنا أيدينا عليه. إذن من أين يأتي التمويل؟ ومن أين تأتي كل هذه الأموال والأسلحة والأجهزة المساعدة الأخرى؟ من أين يأتي الدعم اللوجستي الذي يتيح لأفراد الخلايا الإرهابية هذه الحركة الانسيابية السهلة؟ الإجابات تتعدد وتتنوع عن هذه الأسئلة، وبعض هذه الإجابات لا يستبعد الأصابع الصهيونية الخفية، ومع أن الحكمة تدعونا ألا نبعد هذه الإجابة بشكل قاطع عن لائحة الأسباب المتعددة، لأن للعدو الصهيوني مصلحة مباشرة في إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار في المملكة، نظراً للدور الذي تقوم به في التصدي الحقيقي لعربدة الكيان الصهيوني في المنطقة، التصدي الذي لا يكتفي بالشعارات الفارغة والخطب الطنانة. لقد لاحظ خبراء في شركات نقل الأموال والحراسات الأمنية الأهلية والخاصة وجود شعار إحدى هذه الشركات على تغليف بعض الأموال التي عثرت عليها الجهات الأمنية لدى الخلايا الإرهابية عندما تم عرضها على أجهزة الإعلام. وذلك يعني ? بحسب المختصين ? أن هذه الأموال مسروقة من شركة نقل الأموال، خاصة، والخبراء أنفسهم يؤكدون أن حجم الأموال المسروقة من شركات الحراسات الأمنية الأهلية أثناء تغذية البنوك وأجهزة الصرافات الآلية يقدر بأكثر من 10 ملايين ريال، فهل الأموال التي ضبطت مع الإرهابيين هي من الأموال المسروقة؟ أيضاً هناك إجابة مؤداها أن الأموال التي ضبطت لا تعود لرجال أعمال، وإنما هي لمواطنين سطوا بطريقة خاطئة لاستثمارها لدى شركات وهمية... وقد أكد أحد أعضاء مجلس إدارة الغرفة التجارية في"الشرقية"، أن الغرفة سبق بالفعل وأرسلت خطابات رسمية تتضمن تحذيرات واضحة من الوقوع في شرك الشركات الوهمية، وهذا ما يفتح باباً آخر للتمويل عن طريق شركات وهمية ونشاطات اقتصادية مموهة، أو لا وجود لها، أو لا منصة نظامية لها، وإنما مجرد لافتات تستغل السذج والبسطاء من الناس. ومرة أخرى فإن الأمر إذا كان كذلك، فإن بإمكان الأجهزة الرقابية في الدولة أن تفعل دورها، وتبذل جهداً إبداعياً لكشف هذه الشركات الوهمية عن طريق فرض رقابة دقيقة وصارمة وعلى مستوى عالٍ من الاحترافية. ولموضوع الشركات الوهمية وجه آخر يكشف عنه نائب رئيس اللجنة الوطنية القانونية في مجلس الغرف السعودية المحامي جاسم العطية، فعادة أن الخلايا الإرهابية تمارس نشاطها الاقتصادي في الغالب من خلال مؤسسات رسمية نظامية، مرخصة من الجهات المختصة... إلا أنها تقوم بتسويق بعض المشاريع الوهمية، سواء كانت حقيقية على الأرض، لا تسعى أو تعمل على إقامتها، أو مشاريع وهمية، مستندات مزورة بهدف جمع الأموال اللازمة لتمويل مخططاتها. هذا ما قاله في صحيفة"عكاظ"الصادرة يوم الأحد 19 - 4 - 1428ه. وإذا كان هو وغيره، ونحن أيضاً، نوصي المواطن بأن يتحرى الحذر والحيطة، وان يكون أكثر دقة قبل الدخول في أي مغامرة استثمارية، مهما بلغت إثارتها للشهية الربحية، فإننا إزاء مؤسسات الدولة لا نملك أن نعطي نصيحة مثل هذه، فهي في حاجة إلى نصيحة أخرى... نظنها لا تحتاجها. وإن كنت على يقين بأن لدى الأجهزة ما تقوله في هذا الشأن وليتها تعلنه على الملأ حتى يكون الناس أكثر وعياً، وأكثر مشاركة وفاعلية في تجفيف مصادر تمويل الإرهاب. فالحرب على الإرهاب هي حربنا جميعاً، وهذا ما أكده وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز. * كاتب سعودي.