الانسان بطبيعته لا يعمل في العادة إلا خوفاً من عقاب في حال الإساءة، أو طمعاً في ثواب في حال الاحسان... حتى المتقون من الناس يعملون الصالحات ويجتنبون السيئات فيدعون ربهم رغباً ورهباً، وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. إن اختيار الأشخاص لشغل الوظيفة العامة، وفقاً لشروط نظام"الخدمة المدنية"، وتطبيق أحكام الانظمة وضبط كل من يحاول الخروج عليها، وضمان الاحتفاظ بمستوى معين من السلوك والأداء الوظيفي... فإذا بلغ سلوك أو تصرف الموظف العام حد المساس بقيم ومصالح المجتمع التي ارتأى المنظم جدارتها بالحماية فإن الموظف العام يواجه المسؤولية الجنائية، أو التأديبية، أو كلتيهما، وتحرك الدعوى ضده عن هذه المسؤولية، وفقاً للنظام، فثمة إيقاع العقوبات الجنائية، أو التأديبية كأحد الوسائل التي تستعين بها الإدارة، لضمان حسن سير المرفق العام، والموظفون هم الذين يشغلون الوظائف العامة وهم عمادها، وهم الذين يقومون بالأعمال المادية، والنظامية في الدولة وتحقيق المصلحة العامة، أو المحافظة على النظام العام، ويقوم الموظف العام بأداء خدمات الوظيفة العامة التي يتقلدها بمجرد قبوله لها بتسلم العمل المباشرة. فمن الموظف العام؟ وما الأفعال التي تقع منه ويعاقبه عليها النظام؟ تعريف الموظف العام: لم يضع أي قانون أو نظام تعريفاً محدداً جامعاً للموظف العام، وإنما يقوم كل منهم على تحديد الخاضعين لأحكامه، وكذلك لم يُجمع الفقهاء على إعطاء تعريف دقيق شامل للموظف العام، لكنهم حاولوا اعطاء العناصر الأساسية التي تقوم عليها فكرة الموظف العام وهي: - أن يكون شغله للوظيفة العامة وفقاً لإجراءات قانونية صحيحة. - أن يعهد إليه بعمل دائم. - أن يكون في خدمة مرفق عام تديره الدولة، أو أحد أشخاص القانون العام بالطريق المباشر، أي ان الموظف العام هو كل شخص يشغل وظيفة عامة، وفقاً لإجراءات نظامية صحيح، وبعمل دائم وفي خدمة مرفق عام تديره الدول، أو أحد أشخاص القانون العام بالطريق المباشر... ويلاحظ أن القضاء الفرنسي والمصري ينكران صفة الموظف العام على شاغلي الوظائف في المرافق الاقتصادية، وكذلك الحال في القضاء الإداري السعودي. ونود أن نشير إلى أن صفة الموظف العام تضيق في مجال مزايا الوظيفة العامة، والنظام الإداري، ولكنها تتسع في مجال المسؤولية التأديبية والجنائية، وذلك لأن أنظمة الجزاء تتوسع في مفهوم الموظف العام... فمثلاً نظام مكافحة الرشوة في السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/36 وتاريخ 29-12-1412ه، نص في المادة 8 بأنه يعد في حكم الموظف العام في تطبيق أحكام هذا النظام: - كل من يعمل لدى الدولة، أو لدى أحد الأجهزة ذات الشخصية المعنوية العامة، سواء كان يعمل بصفة دائمة أم موقتة. - المحكم، أو الخبير المعين من الحكوم، أو أية هيئة لها إختصاص قضائي. - كل مكلف من جهة حكومية، أو سلطة إدارية أخرى بأداء مهمة معينة. - كل من يعمل لدى الشركات، أو المؤسسات الفردية التي تقوم بأداء وتشغيل المرافق العامة، أو صيانته، أو تقوم بمباشرة خدمة عام، وكذلك كل من يعمل لدى الشركات المساهم، أو الشركات التي تسهم الحكومة في رأسماله، والشركات، أو المؤسسة الفردية التي تزاول الأعمال المصرفية. - رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من هذه المادة. حسناً فعل النظام الجزائي من أجل حماية الوظيفة العام، لأنه لم يَقْصُر أحكام جريمة الرشوة على الموظفين العموميين، وفقاً للمفهوم الإداري، لأن هنالك من الأشخاص من يتصدى لأداء خدمات عامة للجمهور من دون أن يَصْدُق عليه التعريف الإداري للموظف العام، لذا جاء نص النظام الجنائي شاملاً لفئات من العاملين، واعتبرهم في حكم الموظفين العموميين، وهذا على سبيل المثال وليس الحصر، وكذلك المستخدمون في الحكومة، أو المصالح، أو الهيئات العامة التابعة لها، سواء أكان معيناً بصفة دائمة أم موقتة يعتبرون في حكم الموظفين العموميين لتطبيق أحكام النظام الجزائي. الأفعال التي تقع من الموظف العام ويعاقب عليها النظام: يشترط فيمن يتولى الوظيفة العامة في الإسلام أن يكون متصفاً بصفات أساسية هي العدل، والأمانة، والقوة، والكفاءة، لقوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً. النساء الآية: 58. إن إخلال الموظف العام بالواجبات المتعلقة بالوظيفة العامة يؤدي إلى تعرضه للمسؤولية، والتي قد تكون مسؤولية مدنية أو مسؤولية جنائية أو مسؤولية تأديبية، فالأفعال التي تقع من الموظف العام ويعاقب عليها النظام لا تعدو أن تكون في ثلاث صور هي: أ- مخالفة تأديبية بحتة: خلت معظم القوانين والأنظمة الوظيفية من إعطاء أو تحديد الأفعال التي تصدر عن الموظف وتكون مخالفة تأديبية بشكل محدد، وذلك لتعدد وتنوع الواجبات والمحظورات الوظيفية وتشعبها، وهو ما يجعل مهمة المنظم لتحديدها وحصرها أمراً صعباً، وعليه فإن تحديد جميع المخالفات السلبية والإيجابية التي يستحق فاعلها العقاب والتأديب ليس بالأمر اليسير، لذا عمل القضاء، والفقه على إعطاء تعريف للأعمال والأفعال التي تصدر عن الموظف العام وتشكّل مخالفة تأديبية، فقد جاء بحكم مجلس الدولة الفرنسي أن"للدولة في تنفيذ المرفق أن تطلب من الموظف الامتناع عن كل عمل قد يؤدي إلى الشك، ليس فقط في حياده، ولكن في ولائه للأنظمة، بل حتى مراعاة الطاعة الرئاسية تجاه الحكومة". وذكر القضاء المصري أن"المخالفة التأديبية ليست فقط إخلال العامل بواجبات الوظيفة إيجاباً أو سلباً وما تقتضيه هذه الواجبات من احترام الرؤساء وطاعتهم، بل كذلك تنهض المخالفة التأديبية، كلما سلك العامل سلوكاً معيباً ينطوي على إخلال بكرامة الوظيفة أو لا يستقيم مع ما تفرضه عليه من تعفف واستقامة، وبُعْد عن مواطن الريب والدنايا". أما في القضاء الإداري السعودي فجاء أن"المخالفة الإدارية أفعال تصدر عن الموظف ترى فيها السلطة الإدارية مساساً بكرامة الوظيفة والشرف وخروجاً على الواجب وزعزعة للثقة والاحترام الواجب توافرها في الوظيفة نفسها. ويكفي في الجريمة الإدارية أن تحصل الأفعال المنسوبة إلى الموظف في ثناياها ما يمس حسن السمعة. وتقدير ذلك كله مرجعه إلى سلطة الإدارة ما دام تقديرها في هذا الشأن يستند إلى أصول ثابتة في الأوراق تؤدي إلى النتيجة التي انتهت إليها، إذا كان سبب القرار التأديبي بوجه عام هو إخلال الموظف بواجبات في وظيفته، فكل موظف يخالف الواجبات المنصوص عليها في النظام، أو يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته أو يخل بالثقة المشروعة في هذه الوظيفة أو يسلك سلوكاً معيباً ينطوي على إخلال بكرامتها ولا يستقيم على ما تفرضه عليه من تعفف واستقامة ويبعد عن مواطن الريب، أن يرتكب خطأ إدارياً هو سبب القرار التأديبي"وعمل الفقه من جانبه على بيان الأفعال التي تقع من الموظف العام وتشكل مخالفة تأديبية فقال بأنها"كل فعل أو امتناع يصدر عن الموظف العام ويترتب عليه مفارفة عمل من الأعمال المحظورة شرعاً أو نظاماً وينتج عنها خروجاً عن واجبات ومحظورات وشرف وكرامة الوظيفة العامة". ب- جرائم جنائية بحتة: درجت غالبية الأنظمة الجنائية على عدم وضع تعريف محدد للجريمة الجنائية بوجه عام، ولكنها حرصت على الإحاطة بكل صور السلوك الإنساني المنحرف، أما الفقه فتعددت تعريفاته للجريمة منها"سلوك إرادي غير مشروع يصدر عن شخص مسؤول جنائياً في غير حالات الإباحة، عدواناً على مال أو مصلحة أو حق بجزاء جنائي". أو بأنها"محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها أو تقرير"إن من المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام العقوبات هو أن"لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"أي أن المنظم يعين سلفاً ما يعتبر من الأفعال الصادرة عن الإنسان جريمة، كما يحدد لكل جريمة عقوبتها. ويكتمل المبدأ بجانبين هما: 1- جانب التكليف أي لا جريمة إلا بناءً على ما يعتبره الشرع جريمة من أفعال المكلفين إيجابية كانت أم سلبية. 2- جانب الجزاء أي في حال مخالفة المكلف لما ألقاه عليه الشرع من تكليف إيجاباً كان أم سلباً يتحقق الجزاء، وقد يكون الجزاء عقوبة أو تدبيراً وقائياً. فالأفعال التي تكون جرائم جنائية بحتة هي: كل فعل أو امتناع يصدر عن الموظف العام وليست له علاقة بعمله الوظيفي وينتج عنه الإخلال بواجب شرعي أو نظامي يحددهما النص عليهما وفقاً لقاعدة"لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص". ج- جرائم جنائية ومخالفة تأديبية: إن الفعل الواحد قد تنتج عنه جريمة جنائية ومخالفة تأديبية، وذلك عندما يصدر عن الموظف العام فعل أو تصرف ينطوي على الإخلال بالسلوك العام للمجتمع أو الواجبات الوظيفية، ويشكل عدم الالتزام بما تفرضه أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة، وكذلك الآداب والأخلاق فيترتب عليه إيقاع الجزاء الجنائي التأديبي. فهنالك من الأفعال التي تشكّل جريمة جنائية وتسوغ مساءلة الموظف جنائياً، وتعتبر في الوقت ذاته مخالفة تأديبية تستوجب المساءلة التأديبية، وتوقع الجزاء التأديبي الذي يصل إلى حد الفصل من الخدمة، كحالات النصب والاختلاس والرشوة والسرقة وخيانة الأمانة وغيرها، والتي تشكّل إخلالاً بشرط الوظيفة العامة. وتختلف الجريمة الجنائية عن المخالفة التأديبية من حيث الشرعية أو الأركان أو طبيعة الجزاء الجنائي، فإنّ رفع الدعوى الجنائية لا يحول دون رفع الدعوى التأديبية ولو كانت الدعوتان عن واقعة واحدة، طالما أن هذه الواقعة تضمنت جريمة جنائية ومخالفة تأديبية في وقت واحد. إن الفعل الواحد قد تنتج عنه جريمة جنائية ومخالفة تأديبية، ويقصد بها إتيان الموظف العام فعلاً أو تصرفاً ينطوي على الإخلال بالسلوك العام للمجتمع أو الواجبات الوظيفية، ويشكّل عدم الالتزام بما تفرضه أحكام الشريعة الإسلامية أو الأنظمة النافذة وكذا الآداب والأخلاق في المجتمع، فيترتب عليه إيقاع الجزاء التأديبي أو الجنائي، وذلك وفقاً لطبيعة الفعل الخطأ الصادر عن الشخص الذي ارتكبه. * أستاذ مشارك - المعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.