تتعدد اللجان القضائية وشبه القضائية في المملكة، وتتنوع بتنوع اختصاصاتها والجهات التابعة لها، ومن هذه اللجان مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية في وزارة التجارة والصناعة، التي تم إنشاؤها بموجب قرارات من وزير التجارة للنظر في القضايا الناشئة عن تطبيق نظام الأوراق التجارية، الصادر بالمرسوم الملكي رقم 37 وتاريخ 11-10-1383ه، كقضايا الكمبيالات، والسندات لأمر، والشيكات، والفصل فيها في ما يتعلق بالحق الخاص والحق العام على حد سواء. وتفعيلاً لدور هذه اللجان، وتحقيقاً للأهداف التي أنشئت من أجلها، فقد صدر القرار الوزاري رقم 859 وتاريخ 13-3-1403ه بشأن إجراءات الفصل في منازعات الأوراق التجارية، الذي نص في المادة الأولى منه على: "أن تفصل اللجان المختصة في الدعاوى المنظورة أمامها على وجه السرعة"، كما أن المادة الثالثة نصت على أن: "تكون القرارات الصادرة عن الجهات المشار إليها مشمولة بالنفاذ المعجل...". هذا إضافة إلى غير ذلك من المحكمة التجارية الصادر بالأمر الملكي رقم 32 وتاريخ 15-1-1350ه، التي تبين في مجموعها مدى الأهمية البالغة لقضايا الأوراق التجارية التي تختص بنظرها هذه اللجان، وما تتميز به من استقلالية، وسرعة وقوة في أحكامها وقراراتها. إن التمهيد السابق يوضح مبدأ مستقراً، وهو أن مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية هي جهات مستقلة بذاتها، وتنفرد من دون غيرها من الجهات القضائية الأخرى، بكونها هي صاحبة الاختصاص الولائي بنظر قضايا الأوراق التجارية التي تقام أمامها، وفق الضوابط والشروط التي حددها النظام. إلا أننا نجد أن الواقع العملي يورد لنا أمثلة تدل على اختلال هذا المبدأ، سواء أكان ذلك أمام القضاء أم الجهات التنفيذية، بل وأمام مكاتب الفصل نفسها في بعض الحالات. ومن هذه الأمثلة، ما يحدث في كثير من الأحيان بأن يتمكن المحكوم عليه من وقف تنفيذ قرار مكتب الفصل بعد صدوره، فبمجرد توجهه إلى المحكمة الشرعية، وإقامته دعوى مضادة، فإنه يحصل على خطاب من القاضي الشرعي موجّه بشكل مباشر إلى جهة التنفيذ، يأمرها فيه بوقف تنفيذ قرار مكتب الفصل لحين انتهاء القضية المنظورة أمامه، التي قد تمر السنوات الطويلة قبل انتهائها، ويتم ذلك كله على رغم أن الإجراءات التي تنظم عمل مكاتب الفصل نصَّت بشكل صريح على انه: "لا يترتب على المعارضة، أو التظلم وقف تنفيذ قراراتها، ويجوز لوزير التجارة أو من يفوضه بناء على طلب ذي الشأن، وبعد تقديم ضمان بنكي، أو شيك مصرفي مصدق عليه، أن يأمر بوقف النفاذ المعجل إلى حين البت في المعارضة أو بحسب الأحوال". ومن الأمثلة الحية أيضاً ما تقوم به مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية من وقف نظر قضايا بعض المواطنين المقدمة لها، والامتناع عن الفصل فيها، على رغم استيفائها جميع الشروط، سواء أكان هذا الامتناع مبنياً على توجيهات معينة من أي جهة إدارية أخرى، أم بناء على اجتهاد من ناظر الدعوى. وتبين بعد البحث والاستفسار أن ذلك كله إنما يتم استناداً على مبررات لا تستقيم من الناحية النظامية، إذ إن الاختصاص بنظر القضايا هو من النظام العام، الذي لا يجوز المساس به أو تغييره إلا من السلطة التشريعية، وفق الإجراءات المعروفة... وسبق أن أكدت اللجنة القانونية في وزارة التجارة أن "اختصاص لجان ومكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية متعلق بالنظام العام"، وذلك وفق ما نصت عليه في قراراتها المتعددة، ومنها على سبيل المثال القرار رقم 10/1405 ورقم 85/1405، وكذلك القرار رقم 18/1407، وهنا ينبغي التأكيد على أن هذا المبدأ يقتضي أمرين هما: الأول: منع مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية من نظر أي قضية تكون خارجة عن اختصاصها. الثاني: إلزام مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية بقبول ونظر أي دعوى تقام أمامها، طالما كانت دارجة ضمن اختصاصها ومستوفية للشروط التي حددها النظام، فلا يجوز لها الامتناع عن الفصل في أي قضية معروضة لديها أو وقف نظرها لأي سبب من الأسباب. إذ إن هذا الأمر فضلاً عما يترتب عليه من إضرار بأصحاب الحقوق وإعاقتهم عن تحصيلها، فإنه يتعارض مع جميع المبادئ الشرعية والقانونية التي تحكم الجهات القضائية بكل أنواعها ودرجاتها، كما انه يعتبر انتهاكاً صريحاً لحق من الحقوق المشروعة للمدعي التي كفلها له النظام العام، الذي بين جهة الفصل في قضايا الأوراق التجارية وحددها. إن الأنظمة والتشريعات القضائية في المملكة واضحة في مجملها، وجاءت النصوص المنظمة لعمل مكاتب الفصل في منازعات الأوراق التجارية عامة في أحكامها، ولم تشتمل على أي نوع من الاستثناءات. ومن هذا المنطلق، فإنني أتساءل عن الأسانيد النظامية التي تؤدي إلى صدور مثل هذه الإجراءات، التي يترتب عليها تجميد جهة مهمة من جهات الفصل في المنازعات، وإعاقتها عن تحقيق الهدف من انشائها، وهو حماية الحق الخاص والعام، وتحقيق الاستقرار والأمان في مجال المعاملات المالية والتجارية. محام سعودي [email protected]