ما إن خلدت للنوم في تلك الليلة المشؤومة، حتى بدأت تغزوني كوابيس مخيفة تغيب فيها معالم الوجوه ولا ترى من معالمها غير العبوس وأنواع"التكشيرات"، وتتعالى معها الصرخات بعبارات مختلفة،"راجعنا بكرة"،"ناقص ورقة"،"روح بس كذا روح"، وغيرها الكثير من العبارات المحفوظة... كان ذلك بسبب موعد مراجعة إدارة حكومية لإنهاء معاملتي التي استغرقت ما يقارب تسعة أشهر! وقبل النوم جهزت حقيبة صغيرة، وضعت بداخلها سجادة، وبعض المياه الصحية، وبعض المأكولات الخفيفة، وقليلاً من المكسرات، لمعرفتي بالمعاناة التي سأصارعها مع ذهابي إليها، وكل هذه الاستعدادات نتيجة تجربتي الطويلة مع مراجعة هذه الإدارة منذ زمن حتى اعتبرتها رحلة تتطلب مني التحوط لها بما يلزم من الحاجات... فمع بزوغ ساعات الفجر الأولى هممت بالتوجه إلى الإدارة حاملاً حقيبتي، وكنت أسابق أشعة الشمس حول أينا سيصل إلى الإدارة قبل الآخر! وصلت إلى الشارع الذي يقابل مقر الإدارة، ولم أرَ زحمة السيارات المعتادة، ساورني الشك وقلت لنفسي ربما أنا الذي بكرت بالمجيء، مع يقيني بأنني وصلت في موعدي المعتاد، وساورتني رغبة في المغامرة بالتوجه مباشرة إلى مبنى الإدارة لعلي أجد مكاناً قريباً أوقف فيه سيارتي، وإذا بالمكان خالٍ، إلا من رفقاء العناء والشقاء الذين نشأت بيننا معرفة تطورت إلى صداقات لكثرة مراجعتنا المستمرة، توجهت إلى المبنى لأقف في الطابور إلى حين فتح الباب، وأصابتني الدهشة عندما وقع ناظري على حال المبنى... أحسست أنني أخطأت الطريق ولكنني أخذت"أفرك"عيناي لأتأكد من سلامتهما، بعد ذلك قرأت اللوحة المكتوبة التي تؤكد أنها الإدارة! كان سر اندهاشي لما رأيته من حال المبنى المتهالك الذي لا يصلح إلا لاختبار المعدات الخاصة بإزالة الأنقاض، فطلاء المبنى انعدمت ألوانه التي تخالطت وشكلت ألواناً غير مألوفة لم نعرف لها اسماً من قبل! ولكن الإدارة التي كانت أشجارها تعانق الأرصفة تحولات إلى غابات منسقة حول المبنى، والشوارع التي كانت غير واضحة المعالم وتتخللها الحفر والتشققات من كل جانب غدت وكأنها سجاد أسود من نوع فاخر اكتسح الشوارع المحيطة. تقدمت إلى باب الإدارة ولكني أحسست بالضياع والشتات فلم أجد الطوابير التي كنت أقف فيها مع المراجعين، وعند اقترابي من مقبض الباب لدفعه إذا بحارس الأمن يقفز من مكانه ويطير إلى المقبض وكأننا نتسابق للحصول على فريسة! ويعلن انتصاره بفتح الباب من الداخل وبابتسامة عريضة أخفت معالم وجهه قال وبلطف:"صباح الخير". غريب! إنه ذلك العابس، كان يمطرنا بالشتائم، ويصرخ فينا بوجوب التزام الطابور، ويتوعد بعدم السماح بالدخول لمن يخالف، تقدمت وبخطوات مترددة من هول المفاجأة، رأيت السجاد الأحمر الفاخر يزين المدخل، وانأ أسير بخطوات خائفة وابتسامات الموظفين تستقبلني من كل جهة! والروائح العطرة تملأ المكان، بدلاً من الروائح الكريهة لدخان السجائر وأشياء أخرى. الأشجار الاصطناعية واللوحات الجمالية تغطي الأركان بدلاً من التشققات في الجدران، والخردوات البالية من المستلزمات المكتبية، أسرعت إلى دورة المياه، وازدادت دهشتي بما رأيته من تحول فيها، غسلت وجهي ورأسي لعلي أفهم ما أنا به أو أفيق منه! خرجت وتوجهت إلى الموظف الذي سجن معاملتي داخل أدراجه، والمعروف بالتفنن في اختلاق العراقيل وابتداع الأنظمة من"مزاجه"، ناهيك عن إحساسه بأنه لا يعمل في تلك الإدارة بل إنه يمتلكها... وفي طريقي قابلت مدير الإدارة الذي أحمل له مشاعر غير ودية بسبب غيابه ولا أجده، وعندما أجده لحل معاملتي اخرج من مكتبه كما دخلته! شاهدني وابتسم ونظر إلي وهو قادم نحوي ويستعد ليمد يده لمصافحتي"في هذه الأثناء نظرت إلى كل اتجاه لعل تلك الابتسامات ويده الممدودة لشخص غيري"وتأكدت عندما صافحني ويسألني عن أحوالي، وهل لدي مشكلة مستعصية في هذه الإدارة تتطلب تدخله لحلها؟ وقد طلب مني أن آتي إلى مكتبه متى شئت، وأن باب مكتبه مفتوح دائماً للكل"الباب مفتوح وجنابه غير موجود"! لم أتفوه بكلمة من هول المفاجأة، تقدمت لمكتب الموظف وطرقت الباب ودخلت عليه وإذا به يقوم من مكتبه نحوي ويبدأ بالتحية، ويطلب من العامل أن يحضر كوباً من الشاي ويبدأ بتصفح معاملتي... هذا لم أكن أجرؤ في السابق على أن أقترب من مكتبه الفخم لخوفي من أن يتهمني بأن بي لوثة! وبعد هنيهة عادت التكشيرة المعتادة مجدداً، فأحسست أن سري انكشف، ولست أنا الشخص الذي كان يحسبه وينتظره، وإذا به يصرخ بأعلى صوته"لا، لا... هذا ما تسعة أشهر والمعاملة ما انتهت"وباغتني بسؤال:"أنت كيف صابر؟"واكتفيت بإظهار ابتسامة خفية توحي بالانكسار مقترنة بهز الرأس وقال:"لا.. لازم نشكل اللجنة، وتخلص المعاملة اليوم، هذا حقك علينا يا مواطن"، وأشار إلى أن اذهب إلى الاستراحة وهو سيتولى موضوع اللجنة، توجهت الى الاستراحة وإذا بها المشروبات الساخنة والعصير الطازج وبها جهاز تلفزيون به العديد من القنوات الفضائية، وأنا في ذهولي وحيرتي أحاول أن أفك شفرة ما أرى... جاء الحل من الذين يجاوروني في الجلسة، إذ كان أحدهم يهمس لصديقه قائلاً له: ليت المسؤول يزور هذه الإدارة كل يوم، فكل هذا التغيير المذهل لأنهم علموا بزيارة المسؤول التفقدية للإدارة هذا الأسبوع. إن زيارة المسؤول تأتي في إطار التغيير، بمعنى تغيير ما يراه سلبياً ويعوق سهولة أداء الخدمة وتقديمها للمواطنين، وان يعزز ما يكون إيجابياً، ويدعمه ويحفز القائمين عليه. والسؤال الذي يتبادر للأذهان: لماذا لا يكون ذلك السعي الحثيث لإرضاء المسؤول نابعاً من داخلنا، ويكون هو الأساس وأن نكون عنواناً للأمانة، وأهلاً للثقة التي حملناها من ولاة الأمر، ويكون الهدف هو إرضاء ربنا، ومن ثم إرضاء أنفسنا بالقيام بما يتوجب علينا وتعزيز الرقابة الداخلية في السر والعلن سواءً حضر المسؤول أم لم يحضر؟ اختصاصي اجتماعي [email protected]