إن الإبداع الحقيقي لا يخرج إلا من ينابيع التنوع والاختلاف في الأفكار والآراء، وان المسايرة والاتباع القسري في الحياة الاجتماعية على اختلاف اتجاهاتها لها تربة خصبة للتخلف والتبعية وغياب الهوية الحقيقية. جميل أن نجد الكثيرين من المهتمين في المجتمع من أصحاب الرأي والفكر النير، يناشدون بدعوة صريحة لإبداء الرأي والاختلاف من أجل الوصول إلى أفضل النتائج والغايات، وتحقيق الأهداف من هذا الاختلاف، وأنه ليس من الضروري الاتفاق في جميع ما يطرح، وأيضاً العكس فليس كل ما يطرح لابد من مخالفته، والقاعدة والحد الفاصل في ذلك نبل الهدف من وراء ذلك، وهذا من المؤشرات الإيجابية في النهوض بفكر هذا المجتمع وثقافة أبنائه. ولكن يجب ان نعي ان هذه مرحلة متقدمة تسبقها أولويات يجدر بنا قبل ذلك القيام بها، بأن نهيئ ونؤسس المناخ الملائم والقواعد المتينة للوصول لهذا النوع من الحوارات الهادفة، إذ ان الإنسان كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عمّن حوله، وانه في اتصال مستمر بمن حوله، وان مخاطبة العقول والقلوب فن لا يجيده إلا من يمتلك ادواته التي قد يكتسبها من المحيطين في البيئة التي يعيش فيها، أو من خلال بعض القدرات التي تنبع من داخله ويعمل على تنميتها. لكن أليس من الضروري ان نهتم بأمور يجب ان يعيها كل فرد على حد سواء، وان نعمل جاهدين بصدق وإخلاص وبتكاتف أفراد المجتمع كل بحسب مسؤولياته ومهماته وأدواره الواجب عليه ان يؤديها تجاه أفراد مجتمعه؟ ففي المقام الأول يتحتم علينا ان نراعي ونهتم بالتنشئة الاجتماعية السليمة للابناء، المبنية على أسس راسخة تنبع من ثقافة وادبيات هذا المجتمع في تعلم الكيفية الصحيحة والآليات التي ينبغي ان يكون عليها ابداء الرأي، وطرح الأفكار والمبادئ التي يرغب هذا الفرد في نقلها وتوصيلها إلى الطرف الآخر، والوضوح الذي لا يتلبسه الغموض، والنظر العميق في العوامل والظروف المحيطة بهذه التنشئة، التي قد تصل به إلى ما يسمى مهارات ابداء الرأي والإلمام الحقيقي بالأمور التي ينبغي إبداء هذا الرأي من خلالها، والاجادة في التزام آدابه والابتعاد عن طرح الآراء التي تكون ذات نهاية معروفة وطريق مسدود، والآراء الالغائية التي تلغي وتخطّئ الآخر، والرأي السطحي البعيد عن التعمق، والاهتمام بالقشور، والرأي العاجي بأن ينظر إلى الآخر بنظرة فوقية، والكثير من الآراء الهدامة لقواعد الحوار التي ينبغي الابتعاد عنها، اذا اردنا الوصول إلى اهدافنا المنشودة. وان نسعى بالفرد للوصول إلى القدرة على طرح آرائه بالطريقة التي تجعلنا على يقين تام وثقة من طرح هذا الرأي. وإذا تم الوصول إلى هذه الغاية، فبعدها نأتي إلى الطرف الآخر وهو المستقبل لهذا الرأي، الواعي الجيد الذي يهدف إلى الفهم والاستيعاب وليس بهدف المناقضة واقتناص الاخطاء، على أمل أن يكون رد الفعل مواكباً ومتناسباً إلى حد ما مع هذا الرأي الذي طرح، وبذلك نصل في نهاية المطاف إلى حوار هادف فيه ابداء رأي فعال من جهة، وتقبل هذا الرأي بصورة إيجابية من جهة أخرى. ولتحقيق هذه الصورة الراقية للحوار يبرز الدور الفعال لمؤسسات المجتمع على اختلافها، من خلال الخطط والبرامج المقننة والعلمية والدورات التأهيلية، وإذا أغفلنا زرع ذلك في نفوس ابناء هذا الجيل فسينتهي به المطاف جيلاً صامتاً لا يستطيع ان يبدي آراءه إلا من خلف الستار، ويلغي صوته ويعبر بأنامله، كما هو واقع الكثير من أبناء هذا الجيل الذي اصبح ابداؤه رأيه الكترونياً، وهذا يتضح في المحادثة عن طريق الإنترنت بما يسمى ب?"غرف المحادثة"او بالرسائل النصية من خلال هاتفه المحمول. * اختصاصي اجتماعي [email protected]