لست هنا بصدد الحديث عن طرفة, ولم يكن العنوان لغزاً أبحث من خلاله عن حلول، بل هو جرح أريد من خلاله ? ومعي كثير من الناس - أن نرى المسببات، ونقرأ شيئاً من التداعيات، بل نستدعي الدموع على قضية من العيار الإنساني الثقيل جداً، واعتقد هنا أن التخفيف من تفاصيلها وتبعاتها ليس من الصعوبة ببعيد، إنه خطأ بحق طفلين غادر أحدهما إلى تركيا وهو"سعودي"في الأصل، وبقى الآخر في السعودية وهو"تركي"الأصل أيضاً, إنهما"يعقوب وعلي"، طفلان كانا ضحية خطأ وضع أسرتيهما في مأساة ومعاناة نفسية كبيرة، يحتاجان للتعافي منها لزمن طويل, وقدر هائل من الالتفافة النفسية لن توازي القدر الكبير من الحب والعطف والقبلات التي نعم بها الطفلان لسنوات أربع مع أسرتين حقيقيتين، أصبحتا بقدرة قادر وبغمضة عين تتبادلان الحقيقة والحلم! ليتخيل كل منا فرحته وزوجته بالطفل والشعور الفطري فيهما تجاهه, ومراحل الرضاعة والفطام والمشي والكلام والاحتضان والملاعبة، وكل هذه اللحظات الذهبية في حياة كل أب وأم، ثم يكتشفان ذات مساء بأن ابنهما ليس من صلب أبيه وبطن أمه، وأن علاقتهما بطفلهما الذي ليس ابنهما علاقة مرحلية محضة لا صلة لها بدورة السنين وبتلك اللحظات المليئة بالفرح الإنساني والحزن الإنساني! مؤلم مثل هذا الشعور، وقاسٍ غاية القسوة لا من الجانب الإنساني العاطفي فقط, ولا من الجانب المادي البحت, ولكن من نهاية قصة أبوة مليئة بالحب، والحنان والألفة، والرحمة، واللغة المشتركة، والسكن، ووجبة طعام، والنوم في الفراش نفسه، وقبلة قبل النوم خلال ساعات وأيام وشهور وسنوات العافية والمرح، ثم دموع الحزن واللوعة والقلق، والسهر والأرق عند لحظات المرض. والأهم من ذلك كله"حليب الأم"الذي تغذى به هذا الوليد، حتى أصبح طفلاً يحبو ويمشي، لتتشكل بعد كل ذلك نهاية مأسوية حزينة... هنا نتخيل حجم المعاناة التي تعبر عنها كل من أسرتي الطفلين السعودي والتركي بلغتين مختلفتين، تحتاج كل أسرة منهما إلى مترجم للغة الأخرى, كما تحتاج الأسرتان إلى قوة إيمانية وصحية بدنية لمقاومة رد الفعل العنيف والتي يمكن أن تصيب أحد الأبوين بداء الضغط أو السكر أو الاضطرابات العقلية أو النفسية بمواجهة ذلك الضغط الهائل من جراء المأساة، وتأثيرات القلق والحيرة والألم الذي قد يدوم زمناً طويلاً قبل أن يخف ويزول وينسى! كل أسرة من هاتين الأسرتين - الآن- تستعد لاستقبال طفلها الحقيقي الذي من دمها ولحمها، وتوديع الابن الآخر الذي أرضعته أم الآخر ورعاه أبو الآخر، وأصبحا أخوين في الرضاع، لا بد أن تكون كل منهما مهيأة لاحتضان طفلها الحقيقي، وإعادة الطفل الذي عاش أربع سنوات في كنفها وألفته لينتقل إلى حضن ألِفَه أخوه في الرضاع... فأي حزن عميق هو الذي يمكن التعبير عنه، وأي كلمات وبأي لغة يمكن التعبير بها عن حالة إنسانية ومأسوية كهذه، وأي حالة نفسية هي التي يعيشها أعضاء الأسرتين في لحظة الوداع, كيف تستطيع الأم السعودية أن تترك"علي"وهو لم يفارق الحضن، والموقف وذاته ينطبق على أم"يعقوب"التركية، تلك التي تدرك تماماً أن ابنها الذي احتضنته لا يتقن كلمة عربية واحدة، ولا يتحدث إلا اللغة التركية، من يقنع كل طفل منهما على حدة بأن والديه الحقيقيين هما هناك في المكان الذي لم يشاهده بعد، وهما إنسانان مختلفان عن اللذين يعرفهما منذ اللحظة الأولى التي تفتح فيها بصره على من حوله؟ اتفق أن"يعقوب السعودي"لم يكن أخاً ل"علي التركي"من الرضاع إلا بخطأ طبي, وربما تكون هناك أخطاء طبية أخرى تنتهي بالموت، وهنا تكون حتمية القدر، إنما خطأ كهذا فهو قتل في الحياة دونه الموت، ولا بد - لتلافيه وعدم تكراره - من أن نعمل على كشف المتسبب فيه ومحاسبته، ومن ثم العمل على ألا تتكرر المأساة بين مواليد جدد... ولنسارع في إيجاد حل لمساعدة الطفلين وأسرتيهما من زلزال نفسي ستعيشانه قبل وبعد لحظتي الاستقبال والوداع. سؤال أعمى بقي هنا يقلقني كثيراً وأنتظر إجابة عنه وهو: إلى أي هوية سينتمي كل من الطفل التركي السعودي يعقوب، والطفل السعودي التركي علي؟ [email protected]