"انسحاب عمان من العملة الخليجية الموحدة"،"دول الخليج تعيد تقييم عملتها المرتبطة بالدولار"،"وزير المال السعودي لا يستبعد تأجيل العملة الخليجية"، تلك هي أبرز عناوين ما قبل نهاية العام الماضي ومطلع العام 2007، ولم يتبق سوى ثلاثة أعوام فقط على أن يتحول مشروع العملة الخليجية الموحدة من حلم إلى عملة ورقية. كنت ومازلت أضم صوتي إلى صوت"العقل والمنطق"لا صوت العاطفة، في تناول مسألة العملة الخليجية الموحدة، خصوصاً وأنها أصبحت"شاغلة الدنيا"واسمها المقترح يراود أحلام الراكضين خلفها. وإذا كنا نجد العذر في تحمس المواطن الخليجي، فهو يرى في عملة الدول الست الموحدة - وبعد مرور أكثر من ربع قرن من الانتظار- العصا السحرية في"وحدة اقتصادية خليجية"، فإننا لا نجد العذر لصناع القرار في إطلاق التصريحات المتفائلة، وهم يعلمون جيداً أن كثيراً من المعوقات الداخلية ستعترض ذلك الحلم على الأقل في التاريخ المحدد، بل كان على صناع القرار أن يكونوا أكثر شفافية مع قياداتهم في إيضاح الصورة الحقيقية لهم. حسناً قبل أن نتحدث عن التفاصيل، لا بد من الإشارة إلى أن التجمع الخليجي، وعلى رغم عدم تحقيقه ما يأمل مواطنو هذه الدول من تكامل اقتصادي خصوصاً، يعتبر حتى يومنا هذا التجربة التكاملية العربية الوحيدة التي كتب لها البقاء والاستمرار، وتجاوز كل المعوقات والأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج. وإذا كان هناك شبه اتفاق على أن"الإرادة السياسية"في مجلس التعاون الخليجي حسمت كثيراً من الملفات داخل كيان هذا التجمع، وتمثل ذلك في سلسة من القرارات والاتفاقيات، فالواضح أن المشكلة الرئيسة في الجانب الاقتصادي تتمثل في برنامج وجدول تنفيذها، أي أننا بحاجة إلى"إرادة سياسية"مرة أخرى لدفعها إلى الإمام! لكننا إذا أردنا الشفافية قليلاً فلم تكن أبداً لغة"المصلحة"عادة تتفوق على"الإرادة"، والدليل أنها لم تكن القوة الدافعة للعملة الأوروبية. في شكل عام، لا جدال في أن التعديلات والتجديدات التي جرت على هذا الاتفاق تؤكد أن ثمة تطورات في"الرؤية"بين المسؤولين في الدول الست، بالنسبة للعلاقات بينها، وأسس الانفتاح والمنافسة وهياكل أسواقها، إضافة إلى ملف علاقاتها الخارجية! انظر، مثلاً، إلى ما حدث في الاتحاد الجمركي الذي تم الاتفاق عليه، فما لبث أن عادت النقاشات إليه بعد اتفاقات التجارة الحرة التي عقدتها بعض الدول بشكل انفرادي. فالاتحاد الجمركي الذي جرى تمديد المرحلة الانتقالية فيه إلى عام 2007 والشكاوى على الإجراءات الجمركية الحدودية تزداد يوماً بعد يوم، وقوائم الاستثناءات للسلع غير الخاضعة للاتفاق تزداد طولاً وعدداً، والكثير من البضائع تتلف على الحدود وتنتهي صلاحيتها قبل أن يسمح لها بالعبور بين دولة وأخرى من دول المجلس، ولعل قضية"التمور السعودية"في سوق الإمارات أكبر دليل. إذاً، منطقياً الحديث عن العملة الخليجية أشبه ب"استباق"المراحل جميعها، فهذه العملة هي استحقاق حتمي، لواقع يجب أن يتحقق بدءًا من الاتحاد الجمركي، ومروراً بسوق مال مشتركة وسوق عمل موحدة وسوق سلع واحدة. وبالنظر إلى مكونات وتركيبة المجتمعات العربية الخليجية وأنظمتها السياسية والاقتصادية، يمكن الجزم بأن عوامل التكامل والوحدة الكامنة في هذا الإقليم لم يتم توظيفها بالكامل بعد لخدمة مصالح شعوب ودول الخليج العربية، والوصول للأهداف التي وضعها قادة دول مجلس التعاون على أجندتهم منذ قمتهم التأسيسية الأولى عام 1981، ما يعني أن الاقتصاد الخليجي الحالي هو اقتصاد ست دول منفردة، والمطلوب هو أن تكون ستاً في واحدة. وكان أمراً حتمياً أن ينعكس الشأن الداخلي على قوة"التكتل الخارجي"، خصوصاً مع الأخذ بالاعتبار طبيعة النظام الدولي الجديد ومفاهيم العولمة السائدة فيه وأدواته الفاعلة مثل منظمة التجارة العالمية، والاتفاقات الجماعية والثنائية لتحرير التجارة، والتداخل الهائل في المصالح، وأبرز تجلياته الشركات متعددة الجنسيات، فإن تحديد آفاق ومعوقات وعراقيل مسيرة التكامل الخليجية لا يمكن الوقوف عليها بدقة بشكل منفصل عن بعدها الإقليمي والدولي. حسناً، يحتاج الأمر للتوضيح من الناحية الفنية أيضاً، حتى يتمكن القارئ من ربط الإطار العام السابق، ومحاولة استشراف المستقبل، فالسؤال المطروح على الساحة حالياً هل ستحصل العملة الخليجية على جواز سفر ومرور من بوابة حدود"السياسات المالية والنقدية"؟ وما العقبات التي تعترضها؟. مر مشروع العملة الخليجية الموحدة بثلاث مراحل حتى الآن، المرحلة الأولى ارتكزت على اتفاق دول المجلس الست على ربط أسعار صرف عملاتها الوطنية بسعر صرف الدولار الأميركي. والمرحلة الثانية اشتملت على التنسيق بين دول التعاون فيما يتعلق بتحقيق التقارب في معايير الأداء الاقتصادي ذات العلاقة بالاستقرار المالي والنقدي، وهي معايير اقرها المجلس الأعلى لدول التعاون في كانون الأول ديسمبر 2005 في أبوظبي. واشتمل الاتفاق على توحيد البيانات الإحصائية وعلى معايير تقارب الأداء الاقتصادي ذات العلاقة بالاستقرار المالي والنقدي اللازم لنجاح الاتحاد النقدي مثل معدل التضخم وأسعار الفائدة واحتياطات السلطة النقدية ونسبة العجز السنوي في المالية الحكومية ونسبة الدين العام واحتياطات النقد الأجنبي والنسب المتعلقة وفق دليل إحصاءات الماليات الحكومية الصادر عن صندوق النقد الدولي في العام 2001. والمرحلة الثالثة، جرى الاتفاق على تدشينها في اجتماع لجنة محافظي مؤسسات النقد والبنوك المركزية الخليجية في ابوظبي في التاسع من أيلول سبتمبر 2006، وتتضمن الخطوات العملية لإصدار العملة الخليجية الموحدة مسمى العملة وفئاتها وأسلوب طرحها للتداول وتحديد نظام صرفها وإقامة المؤسسات الخاصة بها. والتصور بهذا الصدد ان تربط العملة الخليجية الموحدة في البداية بعملة أجنبية واحدة قبل ان يُسمح بتعويمها بعد مرور بضع سنوات من إطلاقها. لكن بقيت كل تلك المراحل أقرب إلى كونها"نظريات"بعيدة من أرض الواقع، فعلى سبيل المثال، إن الاتفاق على ربط العملات الوطنية الخليجية بسعر صرف الدولار في المرحلة الأولى تعرض لاختبار كشف عن سلبيات لا يمكن تجاهلها، فتراجع سعر صرف الدولار خلال الفترة الماضية وارتفاع مستويات السيولة الداخلية بأثر مداخيل النفط أسهم في نمو مستويات التضخم نتيجة لارتفاع كلفة الواردات بالعملات الاخرى. ما دفع عدداً من دول التعاون لتقليص موجوداتها احتياطاتها من الدولار لمصلحة عملات أخرى، فقطر قررت تحويل 40 في المئة من احتياطاتها إلى اليورو وربما تزيد إليه الين والجنيه الإسترليني، في حين أن البنك المركزي العماني يحتفظ بنحو 70 في المئة من احتياطاته بالدولار والنسبة المتبقية بعملات أخرى، كما أن البنك المركزي الإماراتي أعلن أنه يفكر في تحويل 10 في المئة من احتياطاته من العملات من الدولار إلى اليورو. وإذا ما انتقلنا إلى عوامل أخرى مثل معدلات التضخم، فهي في السعودية والبحرين في حدة 2 في المئة وأكثر من 7 في المئة في الامارات!.السؤال المهم حالياً، هل هناك استعداد لدى الدول الست للتخلي عن بعض رموز السيادة والاستقلال الموسومة على الصكوك النقدية الوطنية، واختيار مقر البنك المركزي الخليجي، وكيفية توزيع حقول التصويت داخل البنك المركزي الخليجي، والتزام جميع الدول بالمعايير السبعة للتقارب الاقتصادي المتفق عليه؟. إن معايير التقارب الاقتصادي التي تم الاتفاق عليها في المرحلة الثانية جرى استنساخها من نظام النقد الأوروبي الموحد، وهي معايير صارمة لا تترك مجالا لأية دولة بتجاوزها، إذ يتعين فرض عقوبات عليها ربما تصل إلى تعليق عضويتها. وهذا يتطلب بالضرورة وجود محافظين أقوياء للمصارف المركزية في تعاطيهم مع بعض مؤشرات الأداء الاقتصادي مثل إنفاق الإيرادات باعتبارها سياسات مالية ذات أثر في مستويات التضخم التي يمكن معالجتها بأدوات السياسة النقدية التي هي من اختصاصهم، إضافة إلى مسؤوليتهم عن السياسة النقدية المتصلة مباشرة بالعرض النقدي، وأسعار الفائدة وأسعار الصرف تمهيدا لإقامة مصرف مركزي مشترك. خطوة إعلان الاتحاد النقدي الخليجي تمهد لإنشاء المصرف المركزي الخليجي، وستنتقل بصورة متدرجة من المجلس النقدي إلى البنك المركزي المستهدف إنشاؤه، وسيكون التحدي المقبل هو مساعدته على انجاز مهامه وفي مقدمها تنفيذ سياسته النقدية المتمثلة في الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق معدلات تضخم منخفضة. كان حرياً بوزراء المال ومحافظي المصارف المركزية أن ينقلوا إلى المواطن الخليجي"العادي"و"المسؤول"ما يدور خلف الأبواب الموصدة وما يجري أيضاً على أرض الواقع، ليس بهدف إشاعة"التشاؤم"بل لتحقيق مزيد من الشفافية، بدلاً من ترك الأمر لعنصر المفاجأة والتسريبات الصحافية. أن نتأخر في الوصول خير من أن لا نصل أبداً، فلا"تركضوا"بنا، فالعملة الخليجية استحقاق حتمي. * كاتب اقتصادي [email protected]