طغى مصطلح الفوضى الخلاقة في الآونة الأخيرة على كثير من التحليلات الاستراتيجية للأزمة الراهنة في لبنان وفلسطين وحتى العراق, وهذا المصطلح الفلسفي ليس وليد الحال المعاصرة بل انه قديم المرجعية والتأصيل, فجعله أفلاطون من أنظمة الحكم الفاسدة للمدينة الفاضلة، إذ إن الحرية المطلقة هي الفوضى ذاتها، والفوضى عند اليونان هي العماء الشامل. ولذلك سمى أفلاطون المدينة التي تقوم على الحرية بهذا المعنى ب"حكم الدهماء". وهو النوع نفسه الذي حذر منه الفقيه المالكي ابن رشد الحفيد، منبهاً إلى أن الاجتماع في مثل هذه المدن مدينة الحرية إنما هو اجتماع بالعَرَض، لأن سكان هذه المدينة لم يكونوا ليقصدوا باجتماعهم غرضاً واحداً يجمعهم وإنما بحسب اختلاف المشارب والأهواء توطنوا تحت ذريعة الحرية لكل فرد، فهو حكم الدهماء الفاشل في نواميس المجتمعات. هذا المصطلح الفلسفي يعود مرة أخرى إلى الساحة السياسية وضمن تقويم الوضع الأمثل لدول المنطقة العربية، ويحمل في طياته أجندة مجهولة ومستقبلاً مخيفاً، لكنه الأكثر تفاؤلاً وقبولاً لدى صنّاع القرار العالمي, فوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قبل زيارتها للمنطقة العربية في أواخر تموز يوليو الماضي أدلت بحديث إلى صحيفة ال"واشنطن بوست"وأبدت تأييدها الكامل للتحول الديموقراطي في المنطقة العربية، حتى وإن أدى ذلك إلى تغيير واستبدال الأنظمة الحليفة والموالية! ووجهت انتقادات عنيفة إلى سياسة القبول بالأمر الواقع بدعوى الحفاظ على الاستقرار. وعندما قيل لها إن الأوضاع التي تسيطر على المنطقة العربية لا تترك مجالاً آخر سوى الاختيار بين الفوضى أو صعود الإسلاميين للسلطة, قالت رايس إن الوضع الحالي"ليس مستقراً"، وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديموقراطي في البداية هي من نوع الفوضى الخلاقة التي ربما تنتج في النهاية - بحسب الزعم الأميركي- وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً. وحوّل المحافظون الجدد في أميركا مبادئ الثورة الفرنسية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، إلى حرية فوضوية تختفي منها العدالة وتتفرد فيها المصلحة الأميركية! والرئيس الأميركي جورج بوش كعادته لا يستطيع أن يخفي ميوله الأيديولوجية وطموحه السياسي, فها هو يؤكد للعالم إستراتيجيته نحو الفوضى الخلاقة في احد مؤتمراته الصحافية التي نشرتها ال"نيويورك تايمز"بقوله:"إذا أردتم الاطلاع على مفهومي للسياسة الخارجية، فأقرأوا كتاب ناتان شارنسكي فإنه سيساعدكم في فهم الكثير من القرارات التي اتُخذت والتي قد تُتخذ". وناتان شارانسكي يهودي مهاجر من روسيا إلى إسرائيل وأصبح وزيراً لفترة واحدة في عهد شارون، وقابله الرئيس الأميركي جورج بوش في مكتبه في البيت الأبيض, وأبدى بالغ إعجابه بكتاب قضية الديموقراطية الذي شرح فيه شارنسكي نظرية"الفوضى الخلاقة"التي يدعو فيها أميركا إلى استخدام الطائفية كوسيلة للقضاء على محاور الشر وتحقيق الديموقراطية في المنطقة العربية. وشارانسكي له رؤى صدامية وعنصرية فهو يعتبر الإسلام حركة إرهابية لا تهدد إسرائيل فقط، وإنما العالم الغربي بأكمله، ويرى أن استئصال الإرهاب لن يتم باستخدام القوة وتجفيف المنابع فقط وإنما بمعالجة الأسباب العميقة للإرهاب التي تنبع من سياسات الأنظمة العربية الاستبدادية والفاسدة وثقافة الكراهية التي تنشرها، ويتفق شارانسكي بهذا الطرح مع الأطروحة الشهيرة لهانتنغتون التي تنص على أن الإسلام عدو حضاري للغرب. ويدعّم سياسة المحافظين الجدد في استراتيجيتهم نحو الفوضى الخلاقة اليوت كوهين في كتابه القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب, ويرى كوهين أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة، باعتبار أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد أن على الولاياتالمتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي من خلال فوضى الطائفية والقضاء على الراديكالية. يبقى شاهداً على تحمس الإدارة الأمريكية لهذا المشروع ما بثته قناة"العربية"في حديث تلفزيوني للرئيس بوش يُنقل مباشرة من بنسلفينيا اتهامه المباشر للإسلام الراديكالي ? بحسب المفهوم الأميركي للراديكالية - بأنه وراء الإرهاب وغياب الديموقراطية والنهضة في المنطقة, وكرر هذا المصطلح أكثر من عشر مرات, ودعا العالم إلى حربه وأنه العدو بعد الشيوعية وأنه الأخطر على سلام العالم! والحقيقة أن الإستراتيجية الأميركية ليست جديدة على هذه السياسة, فقد انتهجت الفوضى الخلاقة في أكثر من مكان في العالم ولمرات عدة، ففوضى الاحتواء المزدوج في التعامل مع الثورة الخمينية أثمرت عن قيام الحرب العراقية - الإيرانية! وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت الولاياتالمتحدة استراتيجية الفوضى البنّاءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتعتبر رومانيا نموذجاً مثالياً لتفجير الفوضى في بلدان أخرى!! وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من الولاياتالمتحدة، وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأميركية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة، إلى استراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق الفوضى الخلاقة، ولا مانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب استراتيجيات الردع، وأفرزت المتغيرات البنيوية للواقع الدولي نمواً وازدهاراً للعولمة الأميركية، بحيث أصبح القيام بواجبات الأمركة من صميم مهمات رؤساء الولاياتالمتحدة الأميركية. ومما لا شك فيه أن الإدارة الأميركية وصلت إلى قناعة بأن الدول العربية على مفترق طرق، وأن التغيير السياسي قادم لا محالة، وأن من الخطورة الإبقاء على الأوضاع كما هي، لأنها ستبقى مصدر تهديد للولايات المتحدة ومصالحها في المستقبل، وخلال زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس لمصر دعت إلى تغييرات ديموقراطية في الشرق الأوسط، وقالت في محاضرة ألقتها في الجامعة الأميركية في القاهرة:"إن الولاياتالمتحدة سعت على مدى 60 عاماً إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة على حساب الديموقراطية، ولكنها ستتبنى الآن نهجاً يدعم التطلعات الديموقراطية لكل الشعوب. وهذا المعنى مشكل من حيث تطبيقه على أرض الواقع، لأن التطلعات الديموقراطية أصبحت رهان كل القوى الطائفية والسياسية في المنطقة، بمعنى أن دعم هذه التطلعات الديموقراطية سيعيد تشكيل المنطقة سياسياً وجغرافياً إلى شرق أوسط جديد بدأ التسويق له والتسابق الأعمى نحوه. السؤال المهم الذي ينبغي أن يطرح على القوى المؤثرة في المنطقة العربية, ما الدور الأمثل لمواجهة هذا التغيير الذي ينذر ب"سايكس بيكو"جديدة قد تؤدي تلك الفوضى الديموقراطية إلى هيمنة قوى عظمى خارجية على سياسات واقتصادات وثروات دول المنطقة! هذا السؤال أخشى أن يكون جوابه نعياً معجّلاً لأنظمتنا العربية, لكن الاحتياط له واجب في المرحلة الراهنة والمقبلة. وفي ظل هذه الظروف العصيبة خرجت أصوات إصلاحية بدأت تعلو بعد مقاومة حزب الله للعدو الصهيوني, تطالب بتغيير الحكومات العربية نظراً إلى موقفها الصامت من المحنتين اللبنانية والفلسطينية, ولم يستبعد بعض المحللين السياسيين أن تعود الثورات والانقلابات إلى السطح من جديد! وأعتقد أن تلك المطالبات الإصلاحية الجذرية التي قد يكون بعض مطالبيها من شرفاء الوطن ومصلحيه، إلا أنها في ظرفنا الحالي قد لا تصب في مصلحة الوطن ولا مشاريع الإصلاح المنشود, فالتغييرات الراهنة لو حدثت في المنطقة فلن تخدم سوى مصلحة القوى الخارجية المستبدة, بل هي خطوة مقصودة لإثارة النعرات الطائفية والمطالبات الحقوقية، ولن تجني تلك المطالبات سوى المزيد من الذل والضعف والتقسيم, والخيار الأولى والأحكم في هذه الفترة هو المحافظة على وحدة تلك الدول وقطع الطريق على كل محاولات بث الفتنة الطائفية، وتأجيل الخلافات الداخلية والنظر إلى مستقبل الأحداث بعين مخلصة متجردة من الحظوظ والمصالح الآنية, فتجربة دول الاتحاد السوفييتي السابقة وأوروبا الشرقية لاتزال في ذاكرتنا لم تمح ومجريات الأحداث مدروسة ومخططه في غاية الدقة! فهل نعتبر ونعي قبل أن نؤكل كما أُكل الثور الأبيض والأسود! * كاتب وأكاديمي سعودي.