الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد: فقد تابعتُ في الأيام الماضية ما تناقلته وسائل الإعلام من أنَّ دولة الكويت الشقيقة - حماها الله - ممثلةً في وزارة الإعلام وفي غيرها، قد منعت دخول كتب عدد من علماء الأمة الإسلامية إلى أسواقها، ومما برر به البعض قولهم: إن تلك الكتب مما يثير النعرات الطائفية. ومن هؤلاء العلماء الذين تم منع كتبهم : شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، والإمام العلامة عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ صالح الفوزان. ولا أودُّ أن أدخل في خلفيات هذا القرار ولا دوافعه، فهذا قرار دولة لها سيادتها واستقلاليتها، فلتمنع ما شاءت ولتسمح بما شاءت، سواءً أكان مصدر الكتب الممنوعة من الرياض أو من القاهرة أو من طهران أو غيرها، ولكن أن يتم وصف عالم بأنه محرضٌ على طائفية أو تطرف أو غيرهما من أوصاف القدح، فهذا ما يجب أن نقف معه تمحيصاً ونقداً. مع أننا نتمنى لأشقائنا في الكويت الخير والاستقرار وبلوغ الخيرات، وسبيلهم الذي نتمناه لهم في تحقيق ذلك هو سلوك سبيل الوسطية والعدل والإنصاف الذي سار عليه أئمة أهل السنة والجماعة، ومنهم العلماء الذين تقدم ذكر أسمائهم، مقتدين برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، غير أن الذي أودُّ التوقف عنده: أن تدرك الكويت وأصحاب القرار فيها أن الكويت قد هيأ الله لها في أعظم محنة مرَّت بها رجلين نبيلين وإمامين شهمين يندر وجود أمثالهما. كان ذلك إبان الغزو العراقي لأراضيها واحتلاله لها وإفساده فيها، فانتهض لمجابهة ذلك ملك المملكة العربية السعودية الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بقرار سياسي تاريخي، وأيده في ذلك شيخ مشايخ السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء ومرجع الفتوى في العالم أجمع سماحة الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله. لقد كان القرار السياسي من الملك فهد في مواجهة ذلك الغزو والاحتلال، بعد استنفاد كل المحاولات السلمية، كان له تبعات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية تاريخية لا ينتهض لها إلا القلائل من القادة، فصار له بذلك بتوفيق الله يدٌ بيضاء على الكويت الشقيق وأهله تستحق الذكر والشكر، وأن تعرفها الأجيال حقَّ المعرفة، خصوصاً بعد أن وجَّه رحمه الله باستضافة الكويت حكومةً وشعباً في المملكة وتيسير أمورهم كما لو كانوا في الكويت. كما أن موقف سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في مواجهة مخالفيه حول الحكم الشرعي لقتال الغزاة لدولة الكويت، وأنه جهاد في سبيل الله، وأنه يشرع للمسلمين الاستعانة بغير المسلمين لكف الظلم والاحتلال، هذا الموقف جنَّب المسلمين فرقة واختلافاً لا يعلم مداهما إلا الله، ومن أقل شرور هذا الاختلاف أن يُضفى على الغزو العراقي مبرر من المبررات، وخصوصاً في جانب الاستعانة بالقوات العسكرية من دول غير إسلامية. وأسوق في هذا المقام طرفاً من كلام الشيخ عبدالعزيز بن باز حول هذه المسألة، يوضح الحزم والقوة التي أبداها الشيخ عبدالعزيز بن باز في مناصرة الكويت ودحر العدوان، اذ يقول: "ولا يخفى ما وقع في هذه الأيام من عدوان دولة العراق على دولة الكويت واجتياحها بالجيوش والأسلحة المدمرة، وما ترتب على ذلك من سفك الدماء، ونهب الأموال، وهتك الأعراض، وتشريد أهل البلاد، وحشد الجيوش على الحدود السعودية الكويتية، ولا شك أن هذا من دولة العراق عدوان عظيم وجريمة شنيعة، يجب على الدول العربية والإسلامية إنكارها، وقد أنكرها العالم واستبشعها لمخالفتها للشرع المطهر والمواثيق المؤكدة بين الدول العربية والدول الإسلامية وغيرهم، إلا من شذ عن ذلك ممن لا يلتفت إلى خلافه، ولا شك أن ما حصل بأسباب الذنوب والمعاصي وظهور المنكرات وقلة الوازع الإيماني والسلطاني"وقال رحمه الله:"فالواجب على جميع المسلمين أن ينكروا هذا المنكر وأن يناصروا الدولة المظلومة"مجموع فتاوى سماحته 6/133. وقال:"فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة، كما هي الحال في حاكم العراق، فهو بعثي ملحد، ليس من المؤمنين، وليس ممن يدعو للإيمان والحق، بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال، وبدأ يتمسح بالإسلام لما جرى ما جرى، فأراد أن يلبس على الناس ويدعو إلى الجهاد كذباً وزوراً ونفاقاً. ولو كان صادقاً لترك الظلم، وترك البلاد لأهلها، وأعلن توبته إلى الله من مبادئه الإلحادية وطريقته التي يمقتها الإسلام"6/101 102. وقال رحمه الله:"وقد خان الأمانة هذا الطاغية - طاغية العراق- وكفر النعمة وأساء إلى جيرانه بعدما أحسنوا إليه وساعدوه في أوقاته الحرجة، ولكنه كفر النعمة وأساء الجوار وظلم وتعدى وسيجد العاقبة الوخيمة"6/ 140. وقال رحمه الله:"والمقصود أن الدفاع عن المسلمين وعن بلادهم يجوز أن يكون ذلك بقوة مسلمة، وبمساعدة من نصارى أو غيرهم عن طريق السلاح، وعن طريق الجيش الذي يعين المسلمين على صد العدوان عنهم، وعلى حماية بلادهم من شر أعدائهم ومكائدهم" 6/145. وقال رحمه الله محفزاً ومبشراً:"وأبشر إخواني جميعا أن الله سينصر دينه وسينصر حزبه وسيهزم عدوه. ولا شك أن حاكم العراق تعدَّى وظلم وبغى على جيرانه، وأحدث فتنةً عظيمةً سيجد عقابها وجزاءَها، إلا أن يتوب إلى الله توبةً صادقةً ويؤدي الحق لأهله. والواجب جهاده حتى يخرج من الكويت ويرجع إلى الحق والصواب، والمجاهدون لهذا الطاغية على خير عظيم، فمن أخلص لله في جهاده فهو إن عاشَ عاش حميداً مأجوراً عظيم الأجر، وإن قُتِلَ قتل شهيداً لكونه جاهد في سبيل الله لإنقاذ وطن مسلم، ولنصر مظلومين، ولردع ظالم تعدى وبغى وظلم، مع كفره وخبث عقيدته الإلحادية". 6/139. وبعد أن انقشعت الفتنة وحقق الله أمله وبشارته قال رحمه الله:"فإن ما مَنَّ الله به على المسلمين المجاهدين في سبيله من تحرير الكويت من أيدي الغاصبين الظالمين والمعتدين الملحدين من أعظم نعم الله سبحانه على أهل الكويت وغيرهم من المسلمين وغيرهم من محبي الحق والعدل"6/156. وبعد: فهذا هو موقف العلامة عبدالعزيز بن باز نحو الكويت ونحو قادتها وشعبها، وهذا بيانه حول من ظلمهم، فهل هذا هو جزاء موقفه التاريخي أن تمنع كتبه، وأن توصف بأنها تثير الطائفية؟! إنني أعتقد جازماً لو أن دولة في العالم تعرف لأهل الفضل فضلهم، فساندها أحدٌ في محنتها كوقفة فهد بن عبدالعزيز وعبدالعزيز بن باز لأقامت لهما المآثر الكبيرة والتذكارات العظيمة ولجعلت قصتهما في مناهجها الدراسية، ترويها الأجيال تلو الأجيال، فضلاً ونبلاً. لقد كان الأجدر بالكويت أن تخلد اسمَي هذين الإمامين فهد بن عبدالعزيز وعبدالعزيز بن باز بإطلاق اسميهما على مراكز علمية وكليات شرعية، أو غيرها مما يناسب مقامهما ونصرتهما، كما تصنع الدول مع قادتها ومحرريها. ولكن كان موقف بعض مسؤولي الكويت من تلك الأيادي البيضاء أن منعت كتب هذا الإمام من أسواقها! بل وفوق هذا أن يوصف منهج الشيخ ابن باز الذي ومنه موقفه نحو الكويت ونصرتها أنه يثير الطائفية والتطرف. إنني لأعلم أنَّ هذا الموقف نحو العلامة ابن باز رحمه الله لن يضيره شيئاً، بل إنه لن يضير إلا الكويت، في أمنها وثقافتها وتعليمها، فإنه إذا توارى المنهج الحق وغُيب قادة الأمة الوسط أفسح المجال لأصحاب العقائد الضالة والأفكار المنحرفة. ومهما يكن من أمر فإنني أدرك أيضاً أن قراراً كهذا لا يمثل موقف الأسرة الحاكمة في الكويت ولا موقف شعبها، وغاية ما نحمله أنه نوع من الطيف الثقافي الذي وجد بيئةً مواتية في ظل ما تشهده المنطقة من تيارات فكرية تسعى لتصدير مبادئها، فوصلت بعض آثاره نحو بعض الأفراد الذين استغلوا مواقعهم من دون مراعاة للأسس والقيم، ولا للمصالح العليا لأوطانهم ومجتمعاتهم. ما يحتم علينا أن نحذر منه، وأن نحمي مكانة علمائنا من أن تمس مكانتهم بسبب مؤثرات مشاريع تصدير الثورات أو استقبالها. نسأل الله تعالى أن يرحم شيخنا عبدالعزيز بن باز وأن ينفع الناس بعلمه، وأن يوفقنا وإخواننا في الكويت وفي غيرها لما فيه الخير والسداد. * مستشار شرعي وعضو لجنة تأليف المناهج [email protected]