"التوبة"مفردة إسلامية متجذرة في أهم المصادر الشرعية، وتترد آلاف المرات على ألسنة الداعين إلى الفضيلة من الديانات كافة. غير أن مجالات استخدامها ظلت مقصورة في الذهنية المحلية على ترك فنان أو فنانة للتمثيل والغناء، أو توبة شاب من حلق شعر لحيته أو اعتزال شاعر ما إنشاد قصائد"الغزل"أو الشعر برمته مثلما فعل عمر بن أبي ربيعة، بل حدث أن صحافياً تاب من الصحافة! وهكذا دواليك. قليلاً ما نسمع عن التوبة من عقوق الوالدين أو الظلم الذي تمارسه دول ضد دول وحكام ضد شعوب، وأغنياء ضد فقراء، وأرباب عمل ضد عمالهم، كما لم نسمع بتاتاً دعوة للتوبة من"الفساد"بأنواعه التي لا يجوز مجرد حصرها، حتى غدا مصطلح"التوبة"محجماً في زوايا ضيقة هي في الغالب بين المرء وربه. ومن الملفت أنه كما دعت الشريعة الإسلامية كل المخطئين أياً كانت طبيعة أخطائهم إلى مراجعة حساباتهم دائماً مع الله بالاستمرار في التوبة قولاً وعملاً، كان مصطلح التوبة أيضاً موجوداً في الشرائع السابقة، إذ يقول موقع الطائر الانجيلي في مقتبس له من أحد الأناجيل:"التوبة هي الطريق الذي هُيِّئ لنا لكي نصير أحراراً من خطايانا، ونتسلم الغفران منها"، أو الشعور بالأسف أو الندم عن الخطية أو الخطأ التي ارتكبته تجاه غيرك - وهي أمر يحتاج إلى شجاعة وقوة هائلة ودموع كثيرة وصلاة بلا انقطاع ومحاولات لا تعرف الإرهاق لكي نحفظ وصايا الرب". وأشار الكاتب إلى سبعة شروط جعلها لازمة لمن أراد التوبة، وكانت جميعها مترادفة إلى حد كبير مع الأخرى الإسلامية، عدا الشرط الرابع الذي قال فيه: رابعاً: نعترف بخطايانا للرب، ولقادتنا في الكنيسة إذا كانت الخطية تحتاج لذلك"! ووثق تلك الخطوات بإحالته على الأسفار الآتية: ألما، لوقا، المبادئ والعهود، حزقيال". أما في الإسلام فإنه فضلاً عن النصوص الكثيرة التي يدعو فيها الله عباده المؤمنين إلى التوبة من خطاياهم والأخرى التي يحض فيه النبي على مثل ذلك، احتوى القرآن على سورة تحمل اسم"التوبة"ما يصلح أن يكون مؤشراً على أهمية الخصلة في التشريع الإسلامي، إلا أن التائبين المراوغين لله وللخليقة ظلوا الأكثر خطراً حتى من أولئك المذنبين المقرين بالبقاء على خطاياهم. طقوس التوبة وفي الساحة المحلية التي لا تكلف التوبة فيها للرضا الاجتماعي أكثر من ممارسات معدودة يعرفها الجميع يتعجب إمام مسجد في الرياض هو الشيخ حمود الروقي من تضارب أمزجة مصليه، فأفضل"طريقة لاستجدائهم وتفريغ جيوبهم أن يزعم المتسول أنه كان ضالاً يفعل ويفعل ثم تاب واهتدى، وهنالك ترى الناس يستبقون إليه يتصدقون ويهنئونه، بينما تجد أحدهم يتلاعب بكثير من الحقوق، ويظلم ويخدع، ولا يرى ذلك أموراً تستحق التوبة". ومن وجهة نظر الروقي"لا بد من التركيز على سلوكيات الإنسان بعد التوبة، في ما يتصل بعلاقته مع أهله وعمله ورعيته وجيرانه وبالمسجد الذي يعد أبرز امتحان للمتلونين في توبتهم". ويتقاطع مع الروقي المفتي الشهير الدكتور يوسف القرضاوي الذي لفت إلى أهمية قصوى عند الحديث عن التوبة إلى الأعمال الباطنة معاصي القلوب وألا يذهب التأكيد والتحريض على التوبة إلى الأعمال الظاهرة وحدها. وقال:"المعاصي الباطنة هي التي تودي بالقلب، - والقلب إذا فسد تبعه ما سواه - من مثل: الكبر، الحقد، الحسد، الغرور، الإعجاب بالنفس، الاحتقار للغير، العداوة والبغضاء، الرياء، كل هذه من أعمال القلوب المهلكة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:"بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"تنظر إليه باحتقار، هذه معصية من معاصي القلوب، يقول"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"لا يدخل الجنة لأن الجنة لا يدخلها إلا الطيبون. الرياء إذا أدى الإنسان صلاة أو صياماً أو عتقاً أو غير ذلك من الصالحات ولم يكن يريد بها وجه الله إنما يريد أن يراه الناس ويقولون عنه انه من الصالحين هنالك أحبط عمله، هنالك يقول الله له: ليس عندي لك أجر، فإنك لم تعمل لي... عملت للناس اذهب فخذ أجرك ممن عملت له". وأضاف:"هذه أعمال القلوب ومعاصي القلوب التي تعشش في صدور الناس ولا يهتم الناس بها، قد ترى الإنسان مصلياً وصائماً وحاجاً ومعتمراً كل رمضان ولكنه يمشي بين الناس وقلبه مشحون بخطايا القلوب، بالغرور، بالعجب، بالرياء، بالكبر، باحتقار خلق الله، هذا هو الخطر الأكبر، إذاً هي أشد خطراً من معاصي الجوارح والأبدان، لماذا؟ لأن القلب هو حقيقة الإنسان، الإنسان ليس هو هذا الغلاف الطيني، حقيقة الإنسان هو كيانه الروحي الذي لا تراه العين، وإنما هو شيء يعرفه أولو البصائر لا أولو الأبصار، لهذا يجب على المرء أن يفتش عن هذا القلب ويعرف ما أصابه ليبقى طاهراً غير ملوث مستقيماً غير منحرف". وأشار في واحدة من خطبه عن هذا الجانب إلى أن خطورة الأعمال الباطنة تعود إلى أن"كل المعاصي الظاهرة وراءها محرك من أعمال القلوب كما أن الطاعات لا تقبل إلا بعمل قلبي هو النية الخالصة، فإن وراء المعاصي محركاً قلبياً، الذي يغتاب الناس أو ينم عليهم أو يحتقرهم أو يسخر منهم أو يسبهم وراء ذلك، محركات من بواعث النفس واتباع الهوى، هذه هي الخطيرة التي سماها الإمام الغزالي في إحيائه المهلكات، أخذ هذا من الحديث الشريف"ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه"" ولاحظ القرضاوي أن المعاصي الظاهرة سرعان ما يتوب الإنسان منها لأنها واضحة له،"أما معاصي القلوب فكثيراً ما لا تبين لأصحابها ولا تنكشف لهم بوضوح، فيستمرون في غلوائهم ويستمرئون ذنوبهم الباطنة ولا يستجيبون لقول الله تعالى وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون، ولهذا نرى كثيراً ممن يبتلون بالمعاصي الظاهرة يتوبون منها، أما الذين يبتلون بالمعاصي الباطنة فقلما يتوبون منها، وهكذا رأينا آدم عليه السلام الذي ارتكب معصية ظاهرة بالأكل من الشجرة سرعان ما قرع باب ربه تائباً وقال هو وزوجه: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وسرعان ما جاءه الرد الإلهي فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم، أما إبليس الذي كان وراء معصيته الحسد والكبر، حسد آدم على ما آتاه الله من فضله فأبى أن يسجد له واستكبر وتمرد على ربه، هذا إبليس ظل على سوئه ومعصيته وقلة أدبه مع ربه". ظالمون ولكن لا يتوبون ! وعلى صعيد الحياة الميدانية يلفت العالم السعودي الراحل محمد بن صالح العثيمين إلى أن ذنوباً تعد خطيرة يقترفها الناس ولا تراهم يتوبون منها على رغم خطورتها الشديدة، وضرب مثالاً بالمستأجرين الذين يماطلون أصحاب المنازل في تسديد أجورها، معتبراً ذلك نوعاً من الظلم الذي يعتبر مجاوزة لحدود الله لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"مطل الغني ظلم". وأما النموذج الثاني كما يقول الشيخ ? رحمه الله - فمثل"أولئك الظلمة أولئك الغشم أولئك الذين لا يرحمون الخلق ولا يخافون الخالق، أولئك الذين يكون لهم أطلاب عند الناس والناس فقراء فيلجئونهم إلى التدين مرة أخرى حتى تتكرر عليهم الديون وتتضاعف ولا يستطيعون أن يوفوا، يطالبونهم لدى السلطات حتى يحبسوهم من دون حق، هؤلاء الظلمة سيلقون ظلمهم يوم القيامة إن هؤلاء الظلمة الذين لا يرحمون الخلق ولا يخافون الخالق إنهم أناس جنوا على أنفسهم وإنه قد يمنع الله البركات بأسباب ظلمهم إن هؤلاء لم يجنوا على أنفسهم فقط ولكنهم جنوا على أنفسهم وجنوا على من يطلبونهم من هؤلاء الفقراء وجنوا على المجتمع كله لأن المعاصي آثارها لا تخص من عصى فقط ولكنها تعم قال الله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ". وأضاف"أدعو هؤلاء إلى أن يتقوا الله في أنفسهم وفي إخوانهم الفقراء فإنه لا يجوز لأحد يعلم أن مدينه فقير أن يتكلم له بربع كلمة بل يجب عليه إنظاره فرضاً من الله عز وجل يقول الله تعالى وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ البقرة: من الآية280 ونظرة هذه مبتدأ خبرها محذوف والتقدير فعليه نظرة أي يجب عليه أن ينظر هذا المعسر حتى ييسر الله عليه". وتابع في خطبة له عن مفاهيم خاطئة في التوبة:"أقول لهم إنكم إذا حاولتم أن تلزموهم بما لم يجب عليهم وحسبتموهم عن أهلهم وأولادهم فإنكم اعتديتم أيضاً على أهلهم وأولادهم، وأقول لهم أيضاً إنكم إذا احتسبتم الأجر من الله وقمتم بما أوجب الله عليكم من إنظار المعسرين فإن لكم في ذلك ثواباً عظيماً تجدونه يوم القيامة عند الله عز وجل فاحتسبوا الأجر واتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولكن لست حينما أقول هكذا أقول إن على المعسرين أن يتوانوا في طلب ما يوفون به ولكنني أقول إن على المعسرين أيضاً أن يحرصوا غاية الحرص على حصول ما يوفون به لأجل أن يبرأوا أنفسهم بقدر ما يستطيعون" عقود من الاستتابة الفكرية المتبادلة لم تنجب إلا تائبين فقط ! طغى مصطلح"المراجعات"أو"التحولات"على الحديث عن"التوبة الفكرية"التي ظل الجدل عنها وحولها قائماً باستمرار، منذ عصر المأمون حتى اليوم. وفي العصر الحديث، تبادل المحافظون والحداثيون أو الفرقاء الفكريون الاتهامات ودعوات بالتوبة من منهج ينتصر له المثقف أو فكرة ينظر لها الداعية. وعلى هذا الصعيد اشتهر محلياً دعوة علماء الدين ودعاة الصحوة للحداثيين بإشهار توبتهم الفكرية، بعد ما رأوا مؤلفاتهم وأطروحاتهم تحمل شططاً فكرياً ودعوة غير مباشرة إلى"الانحلال"حسبما يقولون. وكان مشهوراً رفع دعوات بمطالبة محاكمة كاتب سعودي معروف. وأخيراً جددت هذا المنحى رواية بنات الرياض التي دعتها أطراف أوسع من التي دعت الكتاب السابقين إلى"التوبة"وتغيير اسم روايتها. وقيل إن محتسبين رفعوا دعوى قضائية ضدها بسبب ما ألحقته من سمعة سيئة ب"فتيات الرياض"الغافلات المؤمنات! لكن الحداثيين أو فرقاء الإسلاميين بعد 11 سبتمبر أنفسهم نصبوا الشرك للإسلاميين الذين تورطت أوساط منهم في دعم الإرهاب فكراً وتنفيذاً، وحاصروهم بتهم التطرف، ومطالبة الصحويين خصوصاً بالتوبة عن خطابهم الذي رآه الطرف الآخر البنية الأساسية للتطرف. وهكذا أصبحت"الاستتابة"الفكرية بين الفريقين متبادلة. ومثلما رد الكاتب المتهم بالردة على الذين دعوه إلى"التوبة"بأنه"لم يكفر بالله حتى يتوب وهو مسلم أباً عن جد"قالت الروائية أيضاً إنها"مقتنعة بصواب خطواتها". أما الإسلاميون الصحويون فإن أحد أقطابهم وهو الدكتور عايض القرني علق أيضاً على حضهم على التوبة بالقول:"نحن مستعدون للمثول أمام المحاكم"! وباستثناء الشيخ عبدالمحسن العبيكان من الفريق الثاني، والكاتب سعد الدوسري من الفريق الأول لم يعلن أحد من الفريقين توبته!