سمعنا وشاهدنا عبر وسائل الإعلام الحديث عن الاتجاه إلى الدنمارك لتوضيح الإسلام وشرح أسسه للشعب الدنماركي، لإزالة الأسباب التي أدت إلى نشر الرسوم المسيئة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بحجة أن نشرها جاء نتيجة جهل الغرب عموماً بالإسلام، وتعليقاً على ذلك أود أن أسطر ما يأتي: 1- لا شك أن الدعوة إلى الله من أجلِّ الأعمال وأفضلها، وهي واجبة على المسلمين في كل وقت وزمان، وهناك أمور يجب على كل من يعمل في هذا المجال معرفتها، وهي بلا شك تختلف من منطقة إلى أخرى ومن قارة إلى قارة ومن شعب إلى آخر. 2- هناك أشياء تنطبق على الشعوب الأوروبية بشكل عام، وأشياء أخرى تنطبق بشكل خاص على الشعوب التي لها تاريخ مشترك مع المسلمين منذ ظهور الإسلام وحتى الآن. 3- هناك فرق في المواقف ووجهات النظر بين هذه الحكومات وشعوبها، وقد تتسع شقة هذا الخلاف أو تقل، لكن الشعوب الأوروبية لديها ثقة في حكوماتها المنتخبة، وبالتالي تدعمها وتقف خلفها بشكل قوي، خصوصاً خلال الأزمات، ويصعب فعلاً رؤية خلاف على الأهداف الاستراتيجية لهذه الدول، وإن حدث فعلى طريقة تحقيقها. 4- إن الشعوب تحمل في تراثها ما يمكن تصنيفه إلى ذاكرتين: جماعية وفردية. فأما الفردية فهي مخزون الإنسان الناتج من التربية والتعليم والخبرة في الحياة العملية. وهذه الذاكرة لا شك إنها خاصية فريدة لكل شخص، وهي التي تحدد غالباً مواقف الإنسان بشكل منفصل عن الآخرين، وفي هذا السياق يمكن للدعوة أن تؤتي أُكلها إذا أُحسِنَ تقديمها، خصوصاً لمن يبحث عنها. وأما الذاكرة الجماعية فتمثل الموروث الجماعي للشعوب الغربية المسيحية منذ ظهور الإسلام وحتى الآن, وقد تشكلت عبر مئات السنين، ومرت بمحطات فاصلة أبرزها: ظهور الإسلام، معركة اليرموك وفتح بيت المقدس، فتح الأندلس، الحروب الصليبية، فتح القسطنطينية، حصار فيينا. فهذه المواجهات الحاسمة أدت إلى نشوء حال من الكراهية ترسخت بشكل عميق داخل النفوس لدرجة ظهورها عند الكثيرين حتى من دون أن يدركوا سببها. وهذه الذاكرة الجماعية تظهر بجلاء أثناء الأزمات، خصوصاً حين يسود الشعور بالتهديد، ومن أفضل الأمثلة على ذلك ما ورد عن القائد الفرنسي غورو، عندما دخل دمشق محتلاً لها نهاية الحرب الأولى ووقف على قبر صلاح الدين وقال:"ها قد عدنا يا صلاح الدين"، ومقولة الجنرال اللنبي عند دخوله القدس في نهاية الحرب العالمية الأولى :"الآن انتهت الحروب الصليبية". ثم قضية منع لبس الحجاب في فرنسا، وهي مسألة غريبة في ضوء الإيمان بالحريات الشخصية في المجتمع العلماني، لكن الهدف الحقيقي هو وضع حد لظاهرة زيادة نسبة المهاجرين المسلمين مع احتفاظهم بتقاليدهم وتراثهم، ما أثار ذكريات المواجهة، وأدى إلى شعور نسبة كبيرة من الفرنسيين بأن التهديد الإسلامي أصبح ظاهرة تستدعي التصدي لها. 5- إن مسألة إرجاع التصرفات المسيئة للرسول، صلى الله عليه وسلم، وإلى الإسلام والمسلمين إلى الجهل بالدين الإسلامي ليست صحيحة تماماً، فالكثير من المواجهات بين المسلمين وأوروبا حدثت بعد فترات طويلة من تعايش المسلمين والاختلاط الثقافي كما حدث في الأندلس، حين هُزم المسلمون واستطاع النصارى احتلال غرناطة، فقاموا بأبشع عملية تطهير للمسلمين، وظهرت محاكم التفتيش التي استمرت لقرابة 300 عام، فهل كان هذا ناتجاً من جهل؟ بالطبع لا، فقد استفادت أوروبا من النهضة في الأندلس وكان للمسلمين دور كبير في الثقافة والعلوم. والمثال الثاني هو في العصر الحديث، وتحديداً في البوسنة والهرسك، اذ ارتكبت المجازر من قبل الغرب ضد المسلمين على رغم من مرور فترة طويلة من العيش المشترك تحت نظام شيوعي، يفترض أن الدين لم يكن له أي دور فيه. 6- وأما مسألة الجهل من طرف الحكومات، فهذا أمر مستبعد. فهذه الحكومات دخلت في صراعات طويلة مع معظم الشعوب العربية، من خلال حقبة استعمارية مريرة للغاية، فهل هذه الحكومات جاهلة حقاً بمعتقدات الشعوب الإسلامية؟ والكل يتذكر ما أنجزه علماء فرنسا من دراسات في غضون ثلاث سنين فقط من احتلال مصر على يد نابليون بونابرت مطلع القرن التاسع عشر، وكيف أن هذه الدراسات كانت قيّمة لدرجة أن بعضها أسست لعلوم جديدة في وقتها. ومراكز الأبحاث والدراسات في الدول الغربية عموماً تجري أبحاثاً في كل المجالات، ومنها الدراسات الإسلامية والشرقية، وهذه الأبحاث متوافرة بين يدي صناع القرار في تلك الدول عند الحاجة إليها في أي وقت، فكيف يقال بعد كل هذا إن الحكومات الغربية تجهل كيفية التعامل مع المسلمين أو أن هناك نقصاً في المعلومات عن الإسلام والمسلمين! 7- إن العمل على التصدي لمسألة السخرية من الإسلام ومن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجب أن يمضي في اتجاهات عدة، سواء الدعوة أو المقاطعة أو الاحتجاج الديبلوماسي أو اللجوء إلى المحاكم أو غير ذلك من الوسائل السلمية التي تنفع ولا تضر. 8- يجب على الدعاة الحذر من مسألة ربط الحوار والدعوة بمسألة إنهاء المقاطعة أو إيقافها موقتاً، وذلك بحجة تمهيد أجواء الحوار وإشاعة مناخ إيجابي، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين. أرجو أن تكون هذه الكلمات مفيدة لكل من يريد المضي في مجال الدعوة إلى الله في أوروبا وفي غيرها، وأن يصبح لدينا في يوم قريب إن شاء الله مراكز أبحاث تساعد الباحثين والدعاة وغيرهم على فهم طبيعة الشعوب الأخرى وإيجاد الوسائل المناسبة للقيام بالدعوة أو على أقل تقدير الوصول إلى تفاهم مشترك على الحد الأدنى من متطلبات الحياة في هذا العالم الصغير. جلال ريحان [email protected]