قبل شروق الشمس، تفتح دكانها الصغير، في سوق الثلثاء الشعبية. تزيح الستار عن بسطتها، ثم تضع إبريق القهوة العربية على نار هادئة. قماشة مستور 75 عاماً يقع متجرها في الناحية الغربية للمجمع التجاري الواقع في وسط مدينة أبها. وما أن تفرغ من صلاة الصبح، حتى تجلس على كرسي خشبي مغطى بقطع من الإسفنج، ثم تدعو رفيقاتها من البائعات في السوق إلى مشاركتها في احتساء قهوة الصباح، وكذلك رواد السوق، حتى أطلق بعضهم على متجرها اسم"الكوفي شوب العربي". وتعول قماشة أسرة من خمسة أشخاص، بينهم فتاة معوقة في العشرين من عمرها، من خلال ما تبيعه من ملبوسات قديمة وأوان مصنوعة من الفخار وسعف النخيل والجلد. ويتراوح دخلها اليومي بين 10 و20 ريالاً، ويصل يوم الثلثاء إلى 70 ريالاً. وتدفع إيجاراً سنوياً لدكانها يبلغ 5 آلاف ريال، تدبرها من الضمان الاجتماعي، الذي تتقاضاه كل عام من الدولة. وتقول إن البيع صار الحرفة الوحيدة المناسبة لقدرات سيدات مجتمعها، من النواحي التعليمية والصحية والاجتماعية، في ظل سوء أحوالهن المادية، وتضيف:"وجود الخبز واللبن في منزلي يعد نعمة عظيمة". وينتهي"دوام"قماشة عند صلاة المغرب، لتعود إلى منزلها الواقع في إحدى القرى المطلة على طريق الطائف. وتعيش قماشة في هذا المنزل مع أبنائها الأربعة، الذين صارت لهم أباً وأماً، منذ رحيل زوجها قبل 12 عاماً. وتقطع قماشة مع بائعات أخريات مسافة ألف كيلومتر تفصل بين أبها والرياض، سنوياً، لعرض بضائعهن البسيطة في الأسواق المصاحبة لمهرجان الجنادرية، وتؤكد السيدة المسنة أن مبيعاتها خلال أيام المهرجان تصل إلى 6 آلاف ريال. ومثل كثيرات غيرها من السيدات المسنات في منطقة عسير، لا تغطي السيدة قماشة وجهها أثناء وجودها في السوق، وتقول:"لم أتعود على غطاء الوجه". وتفخر السيدة السبعينية بأن ماضي هؤلاء السيدات"مفعم بالعمل جنباً إلى جنب مع الرجل"، خصوصاً في الزراعة، التي كان سكان المنطقة يعتمدون عليها في السابق، باعتبارها المصدر الرئيس للدخل، وتتذكر بشجن"السهرات"مع الجيران والأقارب، واصفة أيام شبابها بأنها كانت"أيام خير". وتشير إلى أن المجتمع في ذلك الزمان لم يكن يعترض على استقبال المرأة للضيف وإكرامه في غياب زوجها. وقماشة، ليست السيدة الوحيدة التي تقضي يومها داخل ذلك المجمع التجاري الشعبي، الذي يغلب عليه الطابع الريفي القديم، فهناك أخريات يشاركنها تلك الحياة البسيطة داخل أسوار سوق الثلثاء. وحول دور النساء في الأسواق في عسير، أوضح الكاتب محمد زايد الألمعي، أنه لم يستطع أحد إذابة ظاهرة دور النساء في أسواق مدينة أبها، إلا أنه من الواضح أن جيل السيدة قماشة هو الجيل الأخير في هذه الظاهرة، على حد قوله.