تأخذ المملكة بالقضاء المزدوج: المحاكم القضاء العام وديوان المظالم القضاء الإداري، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث الواقع التنظيمي، حتى ولو كان استثنائياً، فإن الاختصاص النوعي الواحد مشتت بين القضاء العام صاحب الولاية العامة وديوان المظالم، واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، وقد بينّا هذا الكلام عند فقرة تشتيت القضاء وأوضحنا الآثار المترتبة على ذلك مع وضع الحلول. أما الحدود الفاصلة بين هذه الجهات، فتكون في النصوص النظامية الخاصة بكل جهة قضائية أو شبه قضائية، والتي تبين الاختصاص الذي ينعقد لكل جهة من هذه الجهات مثل نظام القضاء، ونظام ديوان المظالم ونظام المرافعات الشرعية، ونظام الإجراءات الجزائية والأنظمة الخاصة بكل لجنة من اللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي. ومن المشكلات الرئيسة التي تترتب على تعدد أو ازدواج جهات القضاء في الدولة ما يقع بين تلك الجهات من تنازع حول الاختصاص، لذلك تحرص الأنظمة القضائية في الدولة التي تأخذ بتعدد أو ازدواج جهات القضاء، على وضع القواعد التي تعمل على تلافي حدوث مثل هذا التنازل، وإقرار الحلول اللازمة لفضه إذا وقع، ويتخذ تنازع الاختصاص الولائي إحدى الصور الآتية: 1- التنازع السلبي: يتحقق عندما ترفع الدعوى الواحدة أمام أكثر من جهة قضائية، وتقضي كل منهما بعدم ولايتها بنظرها تأسيساً على أنها في ولاية الجهة الأخرى، وتلك أخطر صور التنازع، لأن المنازعة تبقى قائمة بغير قضاء يحسمها، وهذا إنكار للعدالة ومظهر من مظاهر سلبية الولاية، ما لم يتم فض هذا التنازع. 2- التنازع الإيجابي: هو عكس التنازع السلبي، ويتحقق عندما تقام الدعوى الواحدة أمام أكثر من جهة قضاء، وتتمسك كل منها بنظرها، وتستمر في ذلك. والذي يهمنا في هذا المقام كيف عالجت الأنظمة ذات العلاقة هذه الإشكالية حال وقوعها؟ وهل كانت النصوص النظامية شاملة لجميع الجهات القضائية بنوعيها: القضاء العام المحاكم الشرعية والقضاء الإداري ديوان المظالم واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، أم أن هناك ثغرات تسمح بأن يثور هذا التنازع بصوره المشار إليها ما يعد خللاً وفراغاً تنظيمياً ينبغي الوقوف عليه وبيانه ووضع الحلول له، إن وجد؟ فنقول: قضت المادة 29 من نظام القضاء على أنه "إذا رفعت دعوى عن موضوع واحد أمام إحدى المحاكم الخاضعة لهذا النظام وأمام أية جهة أخرى تختص بالفصل في بعض المنازعات ولم تتخل إحداهما عن نظرها أو تخلت كلتاهما يرفع طلب تعيين الجهة المختصة إلى لجنة تنازع الاختصاص التي تؤلف من ثلاثة أعضاء: عضوين من أعضاء مجلس القضاء الأعلى المتفرغين يختارهما مجلس القضاء الأعلى ويكون أقدمهما رئيساً، والثالث رئيس الجهة الأخرى أو من ينيبه، كما تختص هذه اللجنة بالفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين صدر أحدهما عن إحدى المحاكم الخاضعة لهذا النظام والآخر عن الجهة الأخرى". فواضح من هذا النص أنه يشترط لإمكان القول بقيام حالة من حالات تنازع الاختصاص الوظيفي التي يواجهها شرطان أساسيان: 3/1- أن يكون التنازع بين دعويين تتحدان في موضوعهما، وقد اكتفى هذا النص صراحة بوحدة الموضوع بين الدعويين ولم يتطلب وحدة الخصوم والسبب، أي أنه اكتفى بالتماثل بين الدعويين ولم يتطلب تطابقهما، وهذا أمر محمود إذ من شأنه الحيلولة دون وقوع التناقض أو التعارض بين جهات القضاء المختلفة - إلى حد كبير - لأنه يتم التحديد بالنظر إلى موضوع النزاع، بغض النظر عن أطرافه أو سببه. 3/2- قيام التنازع بين القضاء الشرعي وجهة أخرى، فالمادة 29 المشار إليها تنص صراحة على أن هذه المادة تعالج حالات التنازع في الولاية التي تثور بين إحدى محاكم القضاء الشرعي، وبين أي جهة أخرى تعهد إليها الأنظمة بالفصل في بعض المنازعات وأول ما يتبادر إلى الذهن التنازع بين القضاء الشرعي وديوان المظالم باعتباره جهة القضاء الثانية في المملكة، وينطبق هذا النص أيضاً على حالات التنازع بين القضاء الشرعي واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي. ولكن يأتي الخلل والفراغ التنظيمي في حل هذه المشكلة من أن النصوص الواردة في نظام القضاء يقتصر تطبيقها بصريح العبارة على حالات التنازع التي يكون القضاء الشرعي طرفاً فيها، ولذلك فهي لا تشمل حالات التنازع بين ديوان المظالم واللجان الإدارية ذات الاختصاص القضائي، كما لا تشمل حالات التنازع بين اللجان ذاتها. الحل المقترح لحل هذه الإشكالية نظراً إلى عظم الأثر المترتب على عدم وجود نصوص تعالج هذا الخلل، وبالتالي احتمال قيام تنازع اختصاص بصوره المشار إليها في هذا الموضوع، بل إنه واقع في كثير من الدعاوى والأقضية. ومن هنا، يتضح ضرورة إنشاء محكمة عليا - بغض النظر عن الاسم أو الارتباط ونحوه - وهي ما تعرف في غالبية الأنظمة المقارنة بالمحكمة الدستورية، ويكون من ضمن اختصاصاتها: الفصل في تنازع الاختصاص بتعيين الجهة المختصة بين جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي إذ رفعت الدعوى عن موضوع واحد أمام جهتين منها ولم تتخل إحداهما عن نظرها أو تخلت كلتاهما عنها، وكذا الفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين، ولعل من الملائم الأخذ باسم المحكمة الأساسية نسبة إلى النظام الأساسي للحكم، وهي محكمة مقترحة في التشكيل القضائي الذي سيتم بيانه في آخر هذه الدراسة.