لنبدأ من رقم فاضح: في العقد الثاني من القرن 21 ينام جائعاً شخص من كل ثمانية من سكان الأرض. هناك موائد عامرة بأنواع الطعام وأخرى خاوية. ثمة من يأكل حتى التخمة، وآخرون ينامون جوعى. يحدث هذا كله فيما يهدر سنوياً قرابة ثلث إنتاج الكرة الأرضيّة من الغذاء بطريقة عبثيّة. تتعدد الأسباب. تبدأ من الهدر في الحقل وعند الحصاد والتعبئة والتخزين والتصنيع. تمرّ بمن يأخذ فوق حاجته، ثم يرمي الفائض في القمامة. هل يفكر من يرمي غذاءً بما يتطلّبه الغذاء من مواد طبيعية كالتربة والمياه والطاقة؟ هل فكّر بأن إنتاج كل ليتر من الحليب يحتاج إلى ألف ليتر مياه؟ صرخة ضد الهدر جمع"يوم البيئة العالمي"World Environment Day في 2013، بين مكافحة الجوع، وهو خطّ أحمر يجب ألا تتسامح البشرية حياله، وإهدار الغذاء الذي يعبّر عن عدم تعمّق الإحساس بالمسؤوليّة تجاه البيئة التي يرتكز إليها وجود الجنس البشري. وكثّف"برنامج الأممالمتحدة للبيئة"و"منظمة الأغذية والزراعة"، هذه الصورة في"يوم البيئة العالمي"، عبر شعار بسيط من 3 كلمات:"فكّر. كُل. اقتصد"Think. Eat. Save. من الواضح أن الشعار يحاول رفع الوعي بتأثير خيارات كل فرد على الآخرين، بل موارد الطبيعة كافة، أثناء ممارسة خيارات يوميّة بسيطة، كإعداد الطعام اليومي للفرد والعائلة. ربما آن الوقت للتفكير أثناء شراء الخضروات، أن الكرّة الأرضيّة تكافح يوميّاً لتزويد سبعة بلايين إنسان بموارد تكفي استمرارهم وتقدّم حياتهم وتطوّر صحّتهم. ربما يفيد ربط الذهاب إلى السوق مع التفكير بأن أعداد البشر ستلامس 9 بلايين في العام 2050، وأن هناك قرابة 870 مليوناً لا يجدون غذاءً مناسباً لهم، الآن. ويموت سنوياً عشرين ألف طفل تحت سن الخامسة بسبب الجوع. أليس عاراً على الإنسانية هذا العدد من الجوعى، وهي ما زالت تتحدى جهوداً دوليّة كالمبادرات التي أطلقها"برنامج الأغذية العالمي"و"منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة"، إضافة الى مئات آلاف المؤسسات الخيرية وصناديق الإحسان وهبات الأسخياء وغيرهم؟ ووثّقت أرقام ظهرت في تقارير صدرت عن"برنامج الأممالمتحدة للبيئة"أخيراً، استمرار وضع غرائبي يتمثّل في استمرار ضياع ما يتراوح بين 40 في المئة و50 في المئة من الخضر والفاكهة والمحاصيل، و20 في المئة من اللحوم ومنتجات الألبان والبذور، و30 في المئة من الشعير والحنطة وغيرهما من المحاصيل الأساسيّة، و30 في المئة من الأسماك، في ظل استشراس ظاهرة الجوع عالميّاً! كم تساوي البذرة؟ الأرجح أن هذه الأرقام والمعطيات تكفي كي تحض الجميع على التفكير في الكلفة البيئية التي تُدفع للحصول على ثمرة أو بذرة أو ورقة أو كوب لبن أو قطعة لحم أو كسرة خبز؟ ربما من المهم معرفة تلك الكلفة والتفكير بها، كي نعلم تأثير الهدر في الغذاء على حياة البشر كلّهم. في هذا الإطار، أوردت تقارير حديثة صدرت عن"برنامج الأممالمتحدة للبيئة"، أن نظام الزراعة العالمي يضغط على الموارد الطبيعية كلها بأثر من السعي المستمر لزيادة الإنتاج، بطرُق تؤثّر على 30 في المئة من الغابات و10 في المئة من الأراضي الرعوية، إضافة إلى استهلاك قرابة 30 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة عالميّاً. في السياق عينه، تضغط الأغذيّة على 9 في المئة من مصادر المياه العذبة، 70 في المئة من الزراعة المرويّة. وربما شكّل هدر الغذاء قضية اقتصادية بيئية أخلاقية. ولعل هناك من يشعر بصدمة عند الإشارة إلى أن المستهلكين في البلاد الغنيّة يهدرون أكثر من 222 مليون طن من الغذاء سنوياً، بينما لا يتجاوز إنتاج الغذاء في دول جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى 230 مليون طناً! بقول آخر، يهدر في حفنة من البلاد الغنيّة ما يساوي الانتاج الزراعي الكامل لمجموعة كبيرة من الدول في أفريقيا، هي تلك التي لا تكف موجات الجوع عن التعاقب عليها أيضاً. في سياق"اليوم العالمي للبيئة"، تميّزت الفعاليّات التي انجزتها منغوليا آسيا الوسطى، في سياق الاحتفالات ب"اليوم العالمي للبيئة". وحاضراً، توصف منغوليا بأنها من أكثر الاقتصادات المتّجهة الى"التحضّر الأخضر"Green Urbanization، بمعنى أنه صديق البيئة. وفي هذا الصدد، من المستطاع استعادة العام 2012، حين مُنِح الرئيس المنغولي تساخياجين البيجدورج جائزة"أبطال الأرض"تقديراً لجهوده في حماية البيئة وإصدار تشريعات تدفع باتجاه تحوّل قطاعات منغولية اقتصادية إلى التنمية المستدامة، على غرار تعزيز التعدين والزراعة والطاقة والمحميّات الطبيعية. كرّست عام 2013 بوصفه"سنة حماية دُب"جوبي"، وهو دُب نادر معرض للإنقراض يعيش في صحراء منغوليا يبلغ عدده 22 دباً، ثمانية إناث وأربعة عشر ذكراً تعيش في الجبال الصخرية في صحراء جوبي. ووجه الرئيس المنغولي كلمة فى هذه المناسبة، قال فيها إن حماية البيئة ليست حملة تستمر يوماً، بل يجب أن تصبح نمط حياة مستمر. ونبّه البيجدورج إلى تزايد مخاطر التغيرات المناخية والتصحر الذي يهدد بلاده، ووصف علاقة الشعب المنغولي بالطبيعة بأنها كعلاقة الأم بالإبن علاقة انسجام وتناغم، ودعا إلى التعرف الى الثقافة التقليدية المنغولية في التعامل الرشيد مع الموارد الطبيعية، ومنها المياه. يذكر أن منغوليا لديها تراث تقليدي مميز في حفظ الأطعمة وتجفيف اللحوم وصناعات الألبان. وكخلاصة، أليس مفيداً أن نفكّر بأن لكل منا بصمته المؤثّرة في البيئة، وهي تعبّر عن نمط استهلاكه، كمّاً ونوعاً، ما يتيح لنا التحكّم فيها. لماذا لا نخفض الوطأة السلبيّة لبصمتنا الغذائية؟ هل نريد ذلك حقّاً؟ لنبدأ ببعض الخطوات الصغيرة ذات الأثر الكبير. لنخطّط لكل وجبة، فنصنع وجبات تتناسب مع حاجاتنا، فلا تفيض. لنحفظ ما يبقى من غذاء، لأن من الممكن استهلاكه لاحقاً، خصوصاً إذا حُفِظ بطريقة سليمة، وهذا يعني أيضاً عدم شراء المزيد. خذ ما يتبقى من طعامك من المطعم ولا تتركه، لأن المطعم يعمد إلى إلقائه في القمامة. ربما يجدر إلا تتسوّق وأنت جائع، فغالباً ما يؤدي هذا إلى شراء ما لا تحتاجه فعليّاً. تعلم كيف تقرأ العلامات على منتجات الغذاء، كتاريخ الصلاحية. رتّب ثلاجة المنزل، كي لا يفسد الطعام، وكي تعرف حاجاتك. وسواء كنت محبّاً للطعام أم لا، سيكون تصرّفك أكثر ذكاءً عندما تفكّر قبل البدء بعملية الاستهلاك. طعام مستدام في ظل الصورة القاتمة عن الجوع وهدر الأغذية، من المستطاع تذكّر صرخة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون التي أطلقها عبر"مؤتمر قمة الأرض+20"Earth Summit +20 في ريو دي جانيرو العام الماضي. آنذاك، دعا بان إلى التكاتف من أجل مبادرة"لا جوع"No Hunger Initiative، كما دعا إلى العمل على مضاعفة إنتاج المزارع الصغيرة التي تعتمد عليها معظم الدول النامية، مع التشديد على التحوّل صوب نُظُم الغذاء المستدامة Sustainable Food Systems. في هذا الصدد، أشارت تقارير"منظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة""فاو" إلى أن ثُلُث الإنتاج العالمي من الغذاء يُفقد أثناء"رحلته"بين الحقل والمستهلك. ولفتت إلى أن هذا يعني ضياع كميات كبيرة من المياه والطاقة والأسمدة والتربة. ويزيد في الفقد، ضعف البنية التحتية الزراعية، خصوصاً في الدول النامية التي تعاني أيضاً من عدم قدرتها على مواجهة موجات الحشرات، وتقلّبات المناخ، وسوء التخزين والهدر عند الجمع والحصاد والتعبئة، وعدم كفاءة خطوات سلسلة الإنتاج الزراعي وغيرها. ضربت"فاو"مثلاً على هذا الأمر، بالإشارة إلى منطقة جنوب الصحراء الأفريقية الفقيرة، حيث يُفقد ما يزيد على رُبُع الغذاء الذي تُنتُجِه الأرض، قبل أن يصل إلى المستهلك. وأشارت"فاو"إلى أن كمية الفقد تصل إلى مئة مليون طن من الغذاء سنوياً في هذه المنطقة التي يوجد بها 265 مليون إنسان جائع. واعتبرت منظمة"فاو"أن من الممكن تغيير هذا الوضع، عبر تطوير نُظُم زراعيّة ملائمة، واستخدام تكولوجيا متطوّرة، وتطبيق فكرة التنمية المستدامة التي تعتمد على الارتقاء بكفاءة استخدام الموارد الطبيعية كي يستمر عطاؤها للأجيال المقبلة. "كينوا"و"كاسافا"و"يوكا" ترافقت فعاليّات الاحتفاء ب"اليوم العالمي للبيئة 2013"، مع تصاعد دعوات كثيرة تحض على العودة إلى الطرق التقليدية في صناعة الأغذية وتخزينها، بهدف المساهمة في جهود سدّ الفجوة الغذائية، وكذلك بمعنى التنبّه لأهمية الاعتماد على قدرات محليّة وخبرات أهليّة. في هذا السياق، طرحت منظمّات دوليّة معنيّة بأزمة الغذاء عالميّاً كال"فاو"، بعض النماذج التي اعتبرت ممثّلة لخبرات مهمّة في الغذاء المحلي. أبرزت"فاو"نماذج عن هذه الأطعمة، كطعام نيجيري مصنوع من نبات ال"كاسافا"، ويُسمى"جاري"، يمكن تخزينه لفترة طويلة. وتحدّثت أيضاً عن طعام صيني يسمى"باكوا"عبارة عن لحم مُدخّن ومجفّف. وكذلك لفتت إلى طعام يصنعه البدو وسكان الصحارى يُسمّى"جهي"يشبه الزبدة، لكن يمكن تخزينه لفترة طويلة. وذكّرت"فاو"أيضاً بأكلة ال"بسطرمة"التي ابتكرها فرسان أتراك ثم أخذها عنهم الايطاليون. واستعادت أغذية تقليدية أخرى من أميركا الجنوبية مثل"يوكا". ولاحظت تقارير مماثلة، أن للدول العربية تاريخاً تقليدياً في حفظ الأغذية بالتمليح والتجفيف وغيرهما، مبدية أملها بالعودة إلى هذه الممارسات الغذائية التي ربما ساعدت على حل جزء من مشكلة نقص الغذاء في كثير من الدول العربية. وأشارت منظمات دوليّة كثيرة إلى أن الأغذية التقليدية أمر يتعلّق أيضاً باحترام المعارف التقليدية التي جمعتها الشعوب عبر تواريخها، بل اكتسبت عبرها كثيراً من الخبرات في الزراعة والحفاظ على الأصناف الغذائية الحيويّة. وضربت مثلاً على ذلك حبوب ال"كينوا"التي تتألق على السنبلات الملونة في جبال ال"آنديز"في أميركا الجنوبية، مُشيرة إلى أنها حبوب تستطيع أن تنمو في ظل ظروف قاسيّة. ولفتت إلى أن ال"كينوا"تستطيع تحمّل درجات حرارة تتراوح بين 8 و 38 درجة مئوية، كما تتحمل الجفاف وفقر التربة. في المقابل، تحتوي ال"كينوا"على بروتينات أساسية. وقررت ال"فاو"أن العام 2013 هو"سنة الكينوا الدوليّة"، واصفة إياها بأنها حبوب قادرة على اجتثاث الجوع وسوء التغذية.