في الوقت الذي عمت الثورات الوطن العربي بداية من تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسورية، يأتي هذا الإصدار "من القرية الى الوطن العربي الكبير 1918 - 1970" ليعيد إلى أذهان المصريين القدرة والإرادة السياسية بالتغيير الذي لم تشهده الشعوب العربية منذ أكثر من نصف قرن مضى، ويركز على أهم محطات القوة في العلاقات المصرية - العربية، وكيف كانت مصر رائدة للعالم العربي وأفريقيا أيضاً، وكيف ساندت في ظل حكم الرئيس جمال عبدالناصر الكثير من الشعوب العربية والأفريقية للتحرر من قبضة الاستعمار الأجنبي بداية من السودان في كانون الثاني يناير 1956، واستقلال تونس في 30 آذار مارس 1956، والجزائر عام 1962، ومراكش في عام 1956، والعراق في عام 1958، والثورة اليمنية في 1962، وثورة عام 1963 في العراق، وانطلاق إذاعة صوت فلسطين في الأول من آذار 1965 وثورة الفاتح في ليبيا 1969. وحان الوقت الذي نحتاج فيه الآن إلى التغيير والتحرر من الاستعمار الداخلي للشعوب وليس من المستعمر المحتل، ولكن من الفاسدين وأصحاب النفوذ الذين عاثوا في بلادهم فساداً وقامت الشعوب العربية لتفرض إرادتها وتنادي بالتغيير. وفي ذكرى مرور 59 عاماً علي ثورة 23 تموز يوليو 1952، نتذكر دائماً هذه المعاني التي افتقدناها منذ عقود مضت، لتبعث روح المقاومة والصمود في العالم العربي ككل، وليظهر إلى النور بعد عام كامل من العمل عن الدار المصرية - اللبنانية كتالوغ يوثق لحياة جمال عبدالناصر، في عنوان:"من القرية إلى الوطن العربي الكبير"1918 - 1970، تأليف الدكتور خالد عزب، مدير إدارة المشروعات الخاصة في مكتبة الإسكندرية والباحثة صفاء خليفة. ويتميز الكتالوغ بأنه نصي إلا أنه إلى جانب ذلك مدعم بالصور والوثائق والأخبار الصحافية التي تغطي الأحداث الرئيسة والمهمة في الفترة المذكورة، وينقسم إلى قسمين رئيسين، الأول يبدأ من عام 1918 وينتهي عام 1951، والثاني يبدأ بعام 1952 وينتهي بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر. ويقدم الكتالوغ إطلالة على أهم الأحداث العربية والإقليمية والدولية التي كان لها كبير الأثر على جمال عبدالناصر قبل توليه رئاسة الجمهورية، ويبين كيف كان يتحرك من خلالها بعد أن تولى منصب الرئاسة وكيف أثرت في أهم القرارات المصيرية في تاريخ مصر الحديث، ويتعرض القسم الأول في البداية لقرية بني مر، موطن الرئيس ثم حياة الطفل جمال في حي باكوس في الإسكندرية، ومراحل التعليم المختلفة التي مر بها، والظروف التي أثرت في تكوينه الفكري، فقد كان رب الأسرة بحكم عمله دائم التنقل بين قرى مصر ومدنها ومديرياتها، الأمر الذي مكّن جمال عبدالناصر منذ الصغر من التعرف إلى واقع بلاده، وإلى البؤس والشقاء اللذين كان يعاني منهما الشعب المصري آنذاك. عاش جمال عالماً متنوع الأطر والمقومات، وكان لذلك أثره في بلورة رؤيته وتشكيلها، فبعد أن نُقل والده للعمل في مكتب بريد الخطاطبة، تلقى تعليمه الأولي في مدرسة الخطاطبة، وفي العام الدراسي 1925 - 1926 التحق جمال بمدرسة النحاسين الابتدائية لمدة عام، ثم مدرسة العطارين، وكان طالباً في الثالثة عشرة من عمره عندما تقدم جموع المتظاهرين بعد أن استصدر إسماعيل صدقي مرسوماً بإلغاء دستور 1923، وكان لهذه التظاهرة وقعها وتأثيرها الكبير على وجدان جمال، فقد اعتبر الجراح التي أصيب بها وسام شرف بين رفاقه الطلاب. وانتقل جمال بعد ذلك إلى مدرسة رأس التين ثم المدرسة الفريدية، حيث واصل دراسته لمدة عامين. ويعرض الكتالوغ نشاط جمال عبدالناصر في تلك الفترة، ففي عام 1933 ضاق المسؤولون في المدرسة ذرعاً بنشاطه، ونبهوا أباه الذي أرسله إلى القاهرة ليعيش في كنف عمه خليل، والتحق بمدرسة النهضة الثانوية في حي الظاهر، وفي تلك الفترة قرأ عبدالناصر الكثير من المؤلفات المهمة التي يتعرض لها الكتالوغ بشيء من التفصيل، وكيف أثرت هذه القراءات المتنوعة والمتميزة في تكوين فكر الطالب جمال عبدالناصر. ويتناول"من القرية إلى الوطن العربي الكبير"، انضمام جمال عبدالناصر إلى جمعية"مصر الفتاة"، واشتراكه في تظاهرات تشرين الثاني نوفمبر عام 1935، وحياته وهو طالب في الكلية الحربية والصعاب التي واجهته قبل دخولها، وتخرجه فيها أول تموز عام 1938، وأيامه في قرية منقباد بعد التخرج. كما يتطرق إلى التحاقه بالعمل في السودان في آذار 1939 ما أكسبه خبرة في معرفة الناس والبلاد، حيث عاين عن كثب الآثار المدمرة للهيمنة الاستعمارية البريطانية. كما يشير الكتالوغ إلى حادث 4 شباط فبراير 1942 وتأثيره في الضباط في تلك الفترة، ثم انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. ويرصد أيضاً تفاصيل بداية حركة الضباط الأحرار، فعقب صدور قرار تقسيم فلسطين في أيلول سبتمبر 1948، عقد الضباط الأحرار اجتماعاً واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم على مساعدة المقاومة في فلسطين، وكان لتجربة حرب فلسطين آثار بعيدة على جمال عبدالناصر، وبعد عودته من فلسطين، عين مدرساً في كلية أركان حرب. وينتهي القسم الأول بانتخابات نادي الضباط واختيار اللواء محمد نجيب قائداً للحركة في كانون الأول ديسمبر عام 1951، وحصول محمد نجيب على الغالبية. يبدأ القسم الثاني بحريق القاهرة في 26 كانون الثاني 1952 بعد اندلاع التظاهرات احتجاجاً على مذبحة رجال البوليس في الإسماعيلية التي ارتكبتها القوات العسكرية البريطانية في اليوم السابق. ومن أهم الأحداث التي يتناولها الكتالوغ بالتفصيل في هذا القسم، ثورة يوليو 1952، وأهم قرارات مجلس قيادة الثورة، ومنها إعلان الدستور الموقت في 10 شباط 1953، وإلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية في 18 حزيران يونيو 1953، وقرار إعادة تشكيل لجنة مصادرة أموال وممتلكات أسرة محمد علي في 8 تشرين الثاني 1953، وقرار حل جماعة"الإخوان المسلمين"في 14 كانون الثاني 1954، والسماح بقيام أحزاب وحل مجلس قيادة الثورة في 24 تموز 1954. يعرض الكتالوغ إنجازات الحقبة الناصرية بداية بالإصلاح الزراعي، والقضاء على الإقطاع، ومروراً بقرار عبدالناصر التاريخي تأميم قناة السويس في 26 تموز 1956، والوحدة المصرية - السورية في شباط 1958، وافتتاح متحف رشيد القومي في 19 أيلول عام 1959، وبدء العمل في مشروع السد العالي في 1960، وقوانين تموز الاشتراكية عام 1961، والميثاق الوطني في 21 أيار مايو 1962 انتهاء ببرنامج جمال عبدالناصر للنضال الوطني في 30 آذار 1968. كما يتناول أيضاً الحروب التي خاضتها مصر في عهده: حرب الأيام الستة عام 1967، وحرب الاستنزاف من 1967 إلى 1970. ويتطرق الإصدار إلى أهم التنظيمات الحزبية التي مرت بها مصر خلال هذه الفترة، بدءاً بهيئة التحرير في كانون الثاني 1953، والاتحاد القومي في كانون الثاني 1956، والاتحاد الاشتراكي العربي في أيار 1962، وكذلك الاتفاقيات المهمة التي عقدتها مصر، ومنها اتفاقية السودان وتطبيق مبدأ حق تقرير المصير، في شباط 1953، وتوقيع اتفاقية الجلاء بالأحرف الأولى في 27 تموز 1954، واتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسورية، والاتفاقية العسكرية الثلاثية بين مصر وسورية والأردن، ومشروع اتفاق الوحدة بين الجمهورية العربية المتحدة وسورية والعراق عام 1963. ويلقي الكتالوغ الضوء على حضور مصر أهم المؤتمرات الدولية والإقليمية والعربية والأفريقية التي تمس الأمن المصري وتناقش أهم القضايا العربية ومنها مؤتمر التضامن الآسيوي - الأفريقي في كانون الثاني 1958، ومؤتمر القمة الأفريقي في الدار البيضاء في كانون الثاني 1961، ومؤتمر بلغراد في أيلول 1961، والميثاق الأفريقي في أديس أبابا، ومؤتمر القمة العربي الأول، وانعقاد أول مؤتمر قمة أفريقية في القاهرة في تموز 1964، ومؤتمر القمة العربية الثاني في الإسكندرية في أيلول 1964، ومؤتمر القمة العربية الثالث في المغرب، ومشاركة مصر في مؤتمر القمة الأفريقي في زائير، ومؤتمر القمة الثلاثي المنعقد في القاهرة حول الموقف العربي في 12 شباط 1970. ويتطرق أيضاً إلى سلسلة مؤتمرات عدم الانحياز ودعم مصر سياسة الحياد الإيجابي التي بدأت بمؤتمر باندونغ في نيسان 1955، ومؤتمر بريوني في تموز 1956، ومؤتمر القمة الثاني لحركة عدم الانحياز في القاهرة في تشرين الأول أكتوبر 1964، ومؤتمر الأقطاب في الهند في 21 تشرين الأول 1966. إضافة إلى أهم لقاءات جمال عبدالناصر وزياراته، على الإطلاق وهي زيارته الأممالمتحدة في 27 أيلول 1960، وحضوره مؤتمر الصحافيين اليابانيين حول قضية فيتنام في 10 شباط 1966، ولقائه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وكلود لانسمان رئيس تحرير مجلة العصور الحديثة. وفي تناغم إنساني رائع يصور لنا الكتالوغ جزءاً من حياة جمال عبدالناصر الإنسان، بعضها مع عائلته الكبيرة، وبعضها من بيته في منشية البكري بين زوجته وأولاده، ولمحات من حياة الأب والأخ والصديق جمال عبدالناصر، إلى أن ينتهي الكتالوغ بيوم وفاة جمال عبدالناصر وجنازته. رحم الله زعيماً عاش في وجداننا ولا نزال نذكر أنه كان جزءاً لا يتجزأ من تاريخنا قمنا بتحديد أخطائه قبل إنجازاته ولم نسهب في نقطة دون غيرها، كما حاولنا التركيز على أهمية العلاقات العربية - العربية التي هي سبب ضعفنا الداخلي والخارجي وهو واجب يقع على زعامات المنطقة العربية وشعوبها في الفترة المقبلة.