رحل منذ أيام محمود عبدالناصر الذي لعب دوراً سياسياً في مصر والمنطقة العربية خلال فترتي حكم الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات، وهو أحد الضباط الأحرار وأحد مؤسسي جهاز الاستخبارات المصري عقب ثورة 23 تموز يوليو 1952. نورد في ما يلي لمحات موجزة عن دور محمود عبدالناصر على الصعيد العربي خلال الفترة الممتدة من عام 1952 وحتى عام 1981. وقد بدأ هذا الدور منذ عمل الراحل ضمن الاستخبارات العامة المصرية عام 1953 واستمر معه بعد التحاقه للعمل برئاسة الجمهورية في عام 1958 عام حدوث الوحدة المصرية - السورية. وتضمن عمله السياسي في مرحلته الأولى التعامل مع الاحزاب والتنظيمات والشخصيات السياسية العربية في المشرق العربي بهدف كسب أرضية للقيادات السياسية المصرية حينذاك وأطروحاتها في شأن القومية والوحدة العربية. وتعززت أهمية الدور لأن الاستخبارات العامة كانت الأداة السياسية الرئيسة للسياسة الخارجية لحكومة الثورة في مصر، وكانت تأتي في الأهمية قبل دور وزارة الخارجية. وشملت المهام التي أنيطت بمحمود عبدالناصر الكثير من بلدان المشرق العربي، وأحياناً دول من منطقة شبه الجزيرة العربية ومنطقة الخليج ومن منطقة المغرب العربي، ووضعه هذا الدور ليس فقط في قلب اتصالات ولقاءات القيادة السياسية المصرية حينذاك مع زعماء الدول العربية، بل أيضاً في صلات مباشرة وشخصية وحميمية مع قادة وكوادر القوى السياسية والاجتماعية في الدول العربية، سواء تلك التي كانت تكافح لاستكمال مهام التحرر الوطني والاستقلال السياسي، او تلك الساعية لإقامة نظم حكم وطنية وقومية بدلاً من نظم اخرى كانت الشكوك تدور حول ممالأتها للاستعمار الغربي أو اسرائيل. من هذا الموقع وفيه استمع محمود عبدالناصر الى رؤى وشهادات وتقديرات مباشرة من اصحابها وبادلهم الرؤى والحجج باحترام متبادل، وأخذ في الاعتبار لمواقف ومصالح جميع الفرقاء، وأضاف تقييمه ورفعه الى القيادة السياسية بهدف تعزيز الدور السياسي والاقتصادي والثقافي المصري في المنطقة العربية ومعه حركة المد القومي العربي الرابطة لشعوب ودول المنطقة في تلك الفترة. ومن هذا الموقع وفيه أيضاً حضر محمود عبدالناصر اجتماعات جرت على أعلى مستوى وفي أدق المراحل وأحرج التوقيتات للقيادة المصرية وقيادات سياسية وحزبية من دول عربية أخرى. وشهدت تلك الفترة بالفعل حالة صعود لهذا المد القومي العربي على المستويين الرسمي والشعبي تمثلت في المواقف الداعمة خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكذلك تمثلت في الوحدة المصرية - السورية في شباط فبراير 1958 وانضمام اليمن اليها في العام نفسه بتأسيس اتحاد الدول العربية والدعم المصري الفعال والمؤثر لثورة العراق في 14 تموز يوليو 1958 وللثورة الجزائرية المستمرة منذ الفاتح من تشرين الثاني نوفمبر 1954 حتى انتصارها في تموز1962. وخلال عقد الستينات أيضاً، لعب الراحل محمود عبدالناصر دوراً رئيساً في جهود جمع الشتات العربي خارج الوطن الأم، وذلك من خلال الاتصال بالمغتربين العرب أياً كانت اصولهم الوطنية او جذورهم العرقية او انتماءاتهم الدينية في جهد حثيث لدمجهم في قضايا الوطن الأم واستعادة الرابطة بين الطرفين لتحقيق مصالح مشتركة تخدم الأهداف القومية العربية للأمة كما تحقق الدعم للجاليات العربية في الخارج سواء الدعم السياسي او الاقتصادي من خلال توفير مميزات لها للاستثمار في العالم العربي، خصوصاً مصر، او الثقافي من خلال تشجيع زيارات الجيل الأول والثاني والاجيال التالية لأوطانها الأم ومساعدتهم على الاحتفاظ بهويتهم القومية واللغوية. وتكللت هذه المساعي لمحمود عبدالناصر وآخرين بالنجاح عندما عقد أول مؤتمر للمغتربين العرب استضافته القاهرة وخاطبه الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وفي مرحلة السبعينات وفي فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات كان من مهام محمود عبدالناصر التعامل مع اللاجئين السياسيين العرب في مصر. وكان من هؤلاء من جاء في الخمسينات أو الستينات هرباً من نظم وحكومات اختلف معها، وكان كثير منهم من الداعمين للرؤية المصرية للقومية العربية كما تجسدت في عهد الرئيس عبدالناصر. ووجد هؤلاء في مصر الملجأ والملاذ الآمن خصوصاً في ظل سياسة انتهجتها واتبعتها القيادة السياسية المصرية منذ زمن بعيد - يسبق قيام ثورة 23 يوليو 1952 - وهو عدم تسليم اللاجئين السياسيين أو ممارسة الضغوط عليهم لإجبارهم على العودة الى بلادهم او التوجه الى اي مكان آخر. وربطت بين محمود عبدالناصر وهؤلاء علاقات وطيدة وقوية منذ توليه الشؤون العربية في الاستخبارات ثم في رئاسة الجمهورية، ولعبت طبيعة هذه الصلة دوراً مهماً في سلاسة العلاقة بين الرئاسة المصرية وهذه الشخصيات اللاجئة الى مصر، وزاد على حفاوة وكرم الاستقبال والاستضافة التوسط في العديد من الحالات بين هذه الشخصيات وحكومات بلادها لترتيب عودتها بقناعة ورغبة منها وبضمانات ورد اعتبارها بل في بعض الاحيان ادماجها من جديد في النظام السياسي لتلك البلدان، وبقي من هذه الشخصيات من اختار مصر محل تقدير واحترام. كان ما تقدم مجرد لمحات عابرة من دور مهم لمحمود عبدالناصر على صعيد العمل العربي وسياسة مصر العربية عبر حوالى ثلاثة عقود من تاريخ مصر والعرب المعاصر، ولا شك ان التناول الكامل والمفصل لهذا الدور يستغرق صفحات لا يتسع لها المجال هنا. * كاتب وديبلوماسي مصري.