يطمح الباحث الفرنسي ألكسندر مواتي، وهو أستاذ في"جامعة باريس السابعة"ومؤرخ العلوم، إلى انتزاع الاعتراف بفرع جديد من العلم، نحت هو اسمه وجعله عنواناً لكتابه هو"آلترساينس"l"alterscience باريس، منشورات"أوديل جاكوب"، 2013. ويقصد بهذا المصطلح"العلم في وجهه الآخر"أو"العلم الآخر". وفي هذا المصطلح، يلعب مواتي على معانٍ متنوّعة، إذ يمكن أن يُفهَم ال"آلترساينس"على أنه نظريات بديلة، أو علوم مُحرّفة، أو علوم موجّهة نحو الآخرين. ويدل المعنى الأخير على حاجة ال"آلترساينس"إلى الاعتراف به من الجمهور، بعيداً عن الإجراءات التقليدية التي تتضمّن المواجهة والمناظرة مع مرجعيات علميّة متنوّعة. ويهتم ال"آلتر ساينس"بأشياء مثل التنجيم والاعتقاد بوجود كائنات فضائية وغيرها. دروس من تجربة"الأشعة إن" في المقابل، لا يسعى ال"آلترساينس"للاعتراض على العلوم السائدة، بل يريد الوقوف داخل العلوم أو ربما على جنباتها. وبالنسبة لمواتي، يقع ال"آلترساينس"ضمن إطار العلوم، بل يملك مطالب محدّدة منها. وظهر ال"آلترساينس"على يد علماء يرغبون في فرض رؤى معيّنة على العلوم. في العام 1958، أشار المُفكّر جان روستوند إلى الفارق بين ظهور نظريات علميّة يتبيّن أنها مغلوطة، على غرار نظرية"الأشعة إن"N Rays التي ظهر أنها خطأ، وبين المغالطات التي لا أساس لها كالتنجيم واستحضار الأرواح. ومن المستطاع القول إن ال"آلترساينس"يسعى إلى إعادة بناء العلوم بطريقة مختلفة، ويصدر عموماً عن علماء أيضاً. ولا يحمل ال"آلترساينس"تنظيراً عن العلوم، كشأن الدراسات الاجتماعية، لكنه يحمل سؤالاً نقديّاً قويّاً عن بعض نتائجها. وربما اختلطت الأمور على بعض الأذهان بالنسبة إلى الفارق بين ال"آلترساينس"، والمواقف التي توصف عادة بأنها مُعارضِة"جذريّاً"للعلوم، على شاكلة الحركات الفوضوية"الأناركيّة"، أو تلك التي تعارض بصورة مستمرة تقدّم علوم النانوتكنولوجيا والهندسة الوراثية. أبعد من هذا الالتباس، يرغب مواتي في البحث عما قاد الأذهان إلى الذهاب صوب تلك المواقف الفوضوية و"الجذريّة". ويرى مواتي أن بعض هؤلاء استلهم بعض مفكري سبعينات القرن العشرين مثل مجموعة"أوبلوموف"التي رأت أن المؤسسة العلميّة متواطئة مع تقنيّات مضرّة بمسار الجنس البشري. وصبّت هذه المجموعة سهام نقدها على التلوّث والنزعة العسكرية والاستلاب الناجم من"العلمية - التقنوية"، لكنها تعدّت هذا الأمر لتهاجم العلوم في مجملها. وفي هذا السياق، تُخلي الدوافع العلمية للاحتجاج مكانها، لنوازع السياسة والأيديولوجيا. ويرى مواتي أن هذه الأفكار ما زالت تُغذي التشاؤم حيال مستقبل العلوم، والميل للقول بالتساوي بين النظريات المختلفة إلى الطبيعة، إضافة إلى رفضها مفهوم"العلامة"والمعادلات والفكر التجريدي، ما يعني أنها تعادي النظريّة وتُشدّد على الممارسة. مركزية... الشمس يلفت مواتي إلى أن أنصار ال"آلترساينس"هم أساساً أشخاص مؤهلون علمياً، كأن يكونوا مهندسين وأطباء وباحثين، بل ضمّت صفوفهم بعض اللاهوتيين في أزمان ماضية. ويلاحظ أن بعضهم اتجه غالباً إلى إنتاج علوم"بديلة"، كاعتبارهم أن الشمس هي مركز الكون، مُشيراً إلى أن بعضهم اكتفى بمواقف نقديّة من نظرية داروين ونسبية اينشتاين وفيزياء الميكانيك الكوانتية، ونظرية ال"بيغ- بانغ"وغيرها. ويتوقف مواتي عند حال المهندسين من أنصار ال"آلترساينس"، الذين يبدون افتتاناً واضحاً بما تلقوه أثناء دراستهم الأكاديمية، لكنهم يستنكرون مآل العلوم، خصوصاً ما حصل في مسارات العلم منذ القرن العشرين، مع التركيز على التخصّص. إذ يحن بعض هؤلاء إلى الأيام التي كانت فيها العلوم"موحّدة". ويرجع مواتي إلى جذور بعض نظريات ال"آلترساينس"، فيراها في مواقف مفكرّين كجان بول مارا 1743- 1793 المعروف بالدور الذي أدّاه في الثورة الفرنسية. وكان مارا طبيباً مشهوراً، تملّكه حب"علم البصريات"، فهاجم نظرية إسحاق نيوتن حول انكسار الضوء، وكتب ضد"أكاديمية العلوم الفرنسيّة"ورئيسها العالِم أنطوان لافوازييه، بل وصفهم ب"الدجالين الحديثين". ويُذكّر مواتي بأن هذه الانتقادات استعادها شارل فورييه 1772- 1837 وأوغست كونت. ويضرب مواتي أمثلة عن تأثير هذه الأفكار. فمثلاً مال أحد الأخوة لوميير، مبتكري الكاميرا والسينما، إلى ال"آلترساينس"، فندّد بمن يقول بالطابع المُعدي لداء السلّ! وفي سياق مُشابِه، ندّد المُفكّر موريس آلاّ بهيمنة مؤسسات الصفوة على العلوم وعلمائها. وكذلك اعترض الألماني هانس هوربيغر 1860- 1931 على نظرية الجاذبية التي صاغها نيوتن، وتخيّل كوناً مُشكلاً من كواكب جليدية. وتعرض الروسي تروفيم ليسينكو 1898- 1976، وهو من الأمثلة الأشد سوءاً على ال"آلترساينس"، لعلم الوراثة التقليدي، تلبيّة لدواعي إيديولوجيّة سادت أيام حكم جوزيف ستالين. وربما ينطبق وصف مماثل على الأميركي ليندون لاروش الذي يوصف بأنه"الفاشي التقني"لأنه أراد أن يُراجع تاريخ الرياضيات بالحجّج نفسها التي استخدمها علماء النازية في الماضي القريب. يلاحظ مواتي أن التفاخر القومي بين الحربين الكونيتين، دفع بعض العلماء الأوروبيين إلى إعادة كتابة تاريخ العلوم عبر انحيازات قومويّة. ومثلاً، نفى عالم الرياضيات الفرنسي إميل بيكار 1856- 1941 عن ألمانيا أي ريادة في تقدم العلوم. ووضع حائزان ل"نوبل"في الفيزياء، وهما فيليب لونارد وجوهان ستارك، نفسيهما في خدمة النظام الهتلري، بل سعيا للتنظير ل"فيزياء آريّة"بالتوافق مع قول النازية بتفوّق العرق الآري. ووضعت هذه الوجوه نفسها على هامش العلم، محاولة تقديم تصوراتها على أنها نتيجة عمل بحثي من جانبها، تدعمه مقولات معيّنة. وسبق لمواتي في عمله"إينشتاين: قرن ضده"باريس، منشورات أوديل جاكوب، 2007، أن أوضح وقوف علماء نازيين وراء الهجوم على إينشتاين ونظرياته. وفي تقويم حركة ال"آلترساينس"وأعمالها وفكرتها العامة عن العلم، يرى مواتي أن رفضها النقاش العلمي، وتطرّفها المتعنّت في التمسك بصوابيّة رؤيتها، يمكن أن يدفعها إلى تصرفات تسلّطية. ويخلص إلى التشديد على القول إن احتجاج ال"آلترساينس"لا ينحصر في نتائج العلوم، بل يطاول المسار العلمي نفسه، وهو أمر يراه مدعاة لأشد القلق.