ما إنْ اختتم معرض"الإنطباعية والموضة"زيارته الى"متحف أورسي"- باريس حتى بدأ عرضه في متحف متروبوليتان في نيويورك مستمراً الى ايار مايو وسينتقل بعدها إلى"متحف فنون شيكاغو". إذاً هو معرض متنقل بين ضفتي الأطلسي وبالتحديد تمّ تجهيزه بتقنية أميركية معقدة، وبإشراف متحفي متروبوليتان وشيكاغو مع شراكة مجموعة أورسي الإنطباعية. هو ما يفسّر مسؤولية مفوضين من النقاد البارزين في الولاياتالمتحدة. ناهيك عن العناية الخاصة"بالسسينوغرافيا"المزدوجة، والتي تعتمد على المقارنة المباشرة بين بعض لوحات رواد الإنطباعية مثل مانيه ومونيه، ديغا ورينوار، مع الأزياء التوثيقية بمجسماتها الواقعية بطرز أزياء عصر الأناقة الباريسية، سواء النسائية منها أو الذكورية في نهاية القرن التاسع عشر. تحفل اللوحات الإنطباعية بشخوص وجماهير متدافعة الألوان والإنعكاسات ضمن إضاءات الشمس والتبادل المغتبط لنور الألبسة والقبعات و"الإكسسوارات"والحلي والأكمام المخملية أو الدانتيل البيضاء على كثب من المعاطف الذكورية السوداء، مع السعي لاقتناص حركة الأجساد في حالات من التماوج والتزاحم خلال سهرات الرقص أو الباليه، المسرح أو في الحدائق العامة أو الشوارع الرحبة والساحات المزيّنة بالتماثيل وأعمدة الإضاءة. هو المجتمع البرجوازي الباريسي، على مثال سعيه الجماهيري في الشوارع الممتدة بين ساحة الباستيل وقوس نصر الشانزيليزيه أي خط شارع اللوفر الذي يقطع العاصمة منذ عهد نابليون الثالث. عرفت هذه الفترة بانتعاش الصالونات الرسمية. هي التي تتحمل لياقتها الأكاديمية رفض لوحات الإنطباعيين، إبتداءً من رفض لوحة مونيه:"انطباع إنعكاس الشمس"التي يرجع إليها التسمية النقدية الساخرة: الإنطباعية، ثم بعد سنوات ترفض لوحة إدوار مانيه"الغداء على العشب"، ويؤسس نابليون الثالث إثرها"صالون المرفوضين". يعانق المعرض نصّاً نقدياً بالغ الأهمية للكاتب إميل زولا، يدافع من خلاله عن الخصائص الفنية للمعلم مانيه، والتي تجعل من موضوع لوحته المذكورة أقل أهمية من ذرائع التصّوير والرسم والمعالجة الصباغية، لكن هذا الموقف المشرف لا يشفع لزولا إساءته البليغة للفنان بول سيزان من خلال روايته عن الفنان الفاشل، خسر في حينها صداقة زميله وخسر مصداقيته النقدية لأنه أخّر فهم سيزان وما تلاه من التكعيبية لسنوات طويلة. كما يعانق المعرض بعض اللوحات التي صوّرها الإنطباعيون في ما بينهم، وتكشف أنخراطهم الذوقي الحداثي في هندامهم الأنيق أيضاً، على مثال صورة إدوار مانيه التي رسمها فانتان لاتور وصورة رينوار التي صورها بازي. يبدو أن الاهتمام الأنكلوساكسوني بالتراث الإنطباعي الفرنسي يتفوق على اهتمام الفرنسيين أنفسهم، هو ما يفسر إهتمام أصحاب المجموعات الأميركيين منذ نهاية القرن التاسع عشر باقتناء أعمالهم، في الوقت الذي كان النقد الفرنسي يتناول الإنطباعية بالخفة والتجريح واعتبار روادهم مجرد راسمي مناظر هواة، يحضرني في هذه المناسبة عدم فهم عبقري الموسيقى الفرنسية الرومانسية"برليوز"واستقراره في أنكلترا حتى اشتهر. وكذلك عدم تقدير أهمية الرسام روبرت دولوني التجريدية إلا من خلال معارضه في ألمانيا مع جماعة الفارس الأزرق والباوهاوس. ينطبق على هذه النظرة الجحودة المثل العربي الشعبي"مزمار الحي لا يطرب". تترسخ هذه النظرة عملياً من خلال مراجعة بيان حشود المعارض الإنطباعية في أوروبا وأميركا وبقية دول العالم خلال مواسم العام الفائت وإستمرار موجاتها لموسم هذا العام وبما لا يمكن حصره في مقال واحد، فهي على سبيل المثال وليس الحصر: معرض"مانيه وفن البورتريه"لندن،"ما بعد الإنطباعية"ملبورن"الأنطباعية والحداثة"ساوبالو،"الإنطباعية في مجموعة كلارك"مونتريال،"رسوم بيسارو على الورق"واشنطن،"ديغا: من الكلاسيكية إلى الفن المعاصر"تورين،"حدائق مونيه"إسطنبول،"رؤى حديثة في الانطباعية"فرانكفورت،"إدغار ديغا"مؤسسة بايلر - بال،"الانطباعية: حساسية واستلهام"أمستردام. يثبت هذا الانتشار الشمولي لمعارض الإنطباعية الإعتراف العالمي باعتبارها البوابة الرئيسية التشكيلية لحداثة القرن العشرين، هو ما يؤكده تخصيص بعض مراكز الدراسات الأميركية ابحاثها لكشف ما خفي من أساليب رواد هذا التيار، ومراجعة مقدماته بعد نتائجة وزيادة الكتب المختصة بالأنكليزية بكل رائد من هذه المدرسة. علينا الاعتراف بأن حشود المعارض الأنطباعية في بلدها فرنسا لا تقل كثافة عن الاخرى الأوروبية والعالمية خلال العام الفائت وكذلك الأمر في مشاريعها المقبلة خلال هذا العام على غرار الدورة الثانية من مهرجان"نورماندي الإنطباعية"الذي سيبدأ في 27 نيسان ابريل المقبل مستمراً حتى أيلول سبتمبر. وفي مدن الشمال الأربع روان وهافر وكايين وجفرني، نتابع معارض وندوات وبحوث مستقبليّة تطرح للمرة الأولى وبينها دراسة جديدة عن النحت لدى الفنان ديغا.