هناك"قطيعية"لدى قادة هذا العالم - على فرض أنهم قادته حقاً، وليسوا مجرد مدراء لمعطياته الهوجاء، يتدبرونها وفق الممكن، مع السعي للحفاظ على مصالح بعينها خارج الخطر - لا تقل عن القطيعية لدى عامة الناس. اليوم راح الجميع يكرر أنه"لا اتفاق أفضل من اتفاق سيء"، وهي حرفياً كلمات تفوه بها نتانياهو أثناء الجولة السابقة للمفاوضات حول الملف النووي الإيراني منذ أسبوعين. والغريب في الأمر أن نتانياهو ذاك يعتبر أنه من حقه البديهي أن يتدخل في مسار المفاوضات، بحجة أن إيران تشكل خطراً على إسرائيل، ولكن الأغرب أن العالم كله يوافق على هذا الدور الإسرائيلي ويكرسه ويتصرف، تماماً مثل نتانياهو، على أنه من البديهيات، بينما إسرائيل تخالف القانون الدولي ومقررات الهيئات الدولية بتمادٍ غير مسبوق. الرئيس الفرنسي زار إسرائيل لثلاثة أيام! وبدأ الزيارة بالتعريف عن نفسه:"صديقكم أنا وسأبقى كذلك إلى الأبد"ها مفهوم"الأبد"يقفز خارج نطاق بشار الأسد وقبله أبيه. ولكنه يبدو شاذاً في فم رئيس بلد الأنوار، والشك والعقلانية الديكارتيين. وهو بعد إسرائيل سافر إلى إيطاليا بعد مرور سريع في باريس!، ومن هناك نهر خامنئي، وكأنه ولد يؤدَّب، قائلاً له:"على إيران تقديم أجوبة وليس استفزازات". ولكن ماذا لو إيران قررت تقديم استفزازات؟ بتعبير آخر، ماذا لو كان ذلك هو ردها على إفشال الاتفاق المرحلي الذي"كان وشيكاً للغاية"بحسب ما قال منذ أسبوعين عند انتهاء جولة التفاوض الأولى تلك، وزير الخارجية الأميركي جون كيري. ماذا لو أظهرت أنها غير مستعجلة هي الأخرى لإبرام اتفاق كيفما اتفق. وإنها، كما قال عباس عراقجي رئيس الوفد الإيراني إلى الدورة الحالية من مفاوضات جنيف، ليست أبداً بصدد إيقاف التخصيب، وأن الهوة بين موقفها ومواقف الدول الخمسة +1 ما زالت، أو عادت، كبيرة للغاية؟ ثمة لحظات من الإثارة بل حتى السعادة التي تبدو كثيفة، ولكنها في الواقع عابرة. فرح الديبلوماسيون الفرنسيون كثيراً بأنفسهم منذ أسبوعين حين بدوا أبطال شيء ما. وفرحوا أكثر حين تتالت تصريحات الصقور من الجمهوريين الأميركان بل ومن عتاة المحافظين الجدد، سياسيين وكتّاب معاً، بأن"عاشت فرنسا"جون ماكين. وعلى غراره غرَّد سواه بأنهم يأكلون اليوم"فرنش فرايز"استعادة لمفردات ذلك الخلاف أيام قررت واشنطن جورج بوش ضرب العراق عسكرياً وناهضتها باريس، فتداعى القوم لمقاطعة الفرنش فرايز البطاطا المقلية وجبنة"كاممْبير"ودلقوا النبيذ الفرنسي في المجارير في حفلات علنية مسعورة. أشخاص معلومون من عيار روبرت ساتلوف وجيفري غولدبرغ والسيناتور ليندسي غراهام الذي ابتهل إلى الله ليبارك فرنسا، حتى ليكاد المرء يتذكر تلك الحكمة الشهيرة، والمبتذلة من فرط استخدامها والتنويعات التي تدرجت فيها:"قل لي من هم أصدقاؤك فأقول لك من أنت". لا بأس. ماذا بعد ذلك؟ يصاب هؤلاء وسواهم بالدهشة حين تعاند إيران. ذلك أنهم بنوا فرضيات ثم صدقوها: يفترضون أنها بحاجة ماسة لرفع العقوبات عنها لأن اقتصادها أنهك ولأنها يمكن أن تستعيد مبالغ مجمدة، بلايين عدة، الخ... متناسين دروس التاريخ، مع أنه قريب للغاية. ذلك أن أنظمة مؤدلجة ولا تميز بين السلطة والدولة، ولا يجري تداول السلطة فيها بطرق ديموقراطية شفافة حتى لو كانت إيران تلجأ إلى التصويت العام، ولكنه كما هو معروف طابق من بين عدة طوابق للحكم، وهو ممسوك بإجراءات مسبقة متعددة... أنظمة كهذه لا تقيس سياساتها على ضوء عذابات الناس ولا تخشى تململهم. انظر إلى العراق، حين راح صدام حسين يتحدى الحصار المفروض عليه ببناء أكبر جامع في العالم وأجمل قصر في العالم، وبإنكار ما لا يريد رؤيته. ثم إيران تتدبر أمرها بشكل أقل مأسوية ومشقة بكثير من العراق: أولاً لأن اللحظة تغيرت ولم نعد غداة انهيار الاتحاد السوفياتي و"نهاية التاريخ"لمصلحة أميركا، على ما زُعِم، بل هناك قطبية متعددة تعود للبروز وفيها تعاضدات، وإن كانت مصلحية إلا أنها إستراتيجية، وثانياً لأن إيران ليست تلملم جراح حرب عالمية شُنت عليها، كما كان حال العراق عام 1991 وحتى نهاية حكم صدام حسين، الذي لم ينته بالمناسبة إلا بحرب عالمية ثانية شنت عليه، وهي النقطة الثالثة الكبرى في الفوارق، حيث اليوم لا حرب يمكن أن تُشن على إيران ولا من يحزنون، لألف سبب وسبب تتعلق بحالة العالم، وباستغناء الولاياتالمتحدة بشكل عميق عن هذا الخيار، على رغم التصريحات الخرقاء لسفيرها في تل أبيب الذي راح منذ يومين، وفيما مفاوضات جنيف دائرة،"يطمئن"هكذا حرفياً والله إسرائيل بان الخيار العسكري لم يزل على الطاولة. هل ثمة حاجة لنقاش خطل هذه الفرضية؟ أي البرهان على أنه لا حرب على إيران، بدءاً من غياب من يمكنه أن يشنها وقد تتورط إسرائيل وتورط العالم بغارات على المفاعلات النووية، ولكن حتى ذلك مستبعد على رغم تشنج نتانياهو وصحبه، وصولاً إلى عدم جدواها، بعد المرور في النتائج المترتبة على انفتاح أفق الفوضى غير البناءة تلك على مصراعيه، حيث سيختلط الحابل بالنابل حرفياً وليس مجازياً، وتدفع إسرائيل الثمن أول من يدفع، ولكن غيرها كذلك، ولا يوجد بالتأكيد من بعد ذلك من يمكنه لمّ الوقف، وبالتأكيد ليست فرنسا من يمكنه ذلك. الاستعصاء يقع هنا. ويعني ذلك في ما يعنيه أنه لا يفترض على من يبغض إيران ويتمنى تلاشيها أن يأمل بتحقيق أمنياته عبر مصير الملف النووي، راجياً الله بأن يتعقد لعل وعسى. فهذا رهان خاسر. بل لعل واحداً من المخارج لتحجيم إيران لمن يرغب يكمن في فك الثنائية القائمة في حالة الاستقطاب الاستراتيجي /المذهبي السائد، بدلاً من تعزيزها كما هو جارٍ: أن يتم الفصل بين الاستراتيجيا بوصفها صراع الدول على النفوذ وسائر المفردات الكلاسيكية في هذا المجال، وحرب داحس والغبراء السنية الشيعية. أي أن يخاض الصراع ذاك بذاته، لأن الرداء المذهبي الذي يرتديه يلائم إيران تماماً. ولكن هل من يَعْقَل؟