لا يختلف اثنان ان رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتانياهو، يدرك تماماً ان مواقفه تجاه الملف النووي الايراني، بعيدة جداً من مواقف فرنسا لكنه تعمد استقبال الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، استقبالاً ملوكياً، في محاولة منه لإظهار الأمور في شكل مغاير. فقد راح يمتدح الموقف الفرنسي ويبرز تصريحات هولاند المتوافقة مع اسرائيل في رفض أي تقارب أو تساهل أو تهاون دولي تجاه التسلح النووي الايراني. وفي سبيل توسيع رقعة نشاطه الدولي، سافر الى روسيا، معللاً ذلك بمحاولة التأثير في موقفها وتأجيل التوقيع على الاتفاق في جنيف وإجراء مزيد من التعديلات على نص الاتفاق. وانضم إلى جهوده عدد غير قليل من وزرائه. وحتى وزيرة القضاء تسيبي لفني، التي تختلف مع نتانياهو في انتقاداته العلنية للولايات المتحدة وتعتبرها تبجحاً غير ضروري، تجندت إلى جانبه. وراحت تتفاخر بنجاح جهود اسرائيل وفرنسا بعدم توقيع الاتفاق مع ايران، في الأسبوع الماضي، مع علمها ان هناك شبه إجماع في اسرائيل على ان هولاند لن يحقق لنتانياهو ما يريد، بل هناك قلق من أن يتراجع الفرنسيون عن موقفهم تجاه الاتفاق مع ايران، تحت ضغط الصديق الأكبر، الرئيس باراك أوباما. وانضم الى الحملة كبار المسؤولين في مكتب نتانياهو، وروّج احدهم عبر وسائل الإعلام لهذا الموقف وقال: «اسرائيل وفرنسا تقفان في الخندق نفسه اليوم ولا يمكن أن ننسى لهولاند وقفته الصارمة، التي تسببت عملياً في تأجيل التوقيع على الاتفاق السيئ الذي توصل اليه الأميركيون والروس مع ايران واضطرارهم الى تأجيل المحادثات. ولكننا في الوقت نفسه، قال كبير المسؤولين: «نذكر جيداً ان فرنسا اتخذت موقفاً مماثلاً في تأييد الضربة العسكرية لسورية قبل شهور عدة. فعندما تراجعت الولاياتالمتحدة عن ضربة كهذه واتفقت مع روسيا على صفقة تدمير الأسلحة الكيماوية، تراجعت فرنسا أيضاً. ويجب أن نضمن ألا تتراجع فرنسا هذه المرة أيضاً». وحديث هذا المسؤول يعكس القلق الحقيقي لإسرائيل من الموقف الفرنسي. خلال استقباله الرئيس الفرنسي، طرح نتانياهو امكانية إقناع الأميركيين والروس والبريطانيين بضرورة التخلي عن فكرة التوصل إلى اتفاقات مرحلية مع ايران ومواصلة المفاوضات من دون توقف لأجل التوصل إلى اتفاق شامل لوقف مشروعها النووي. ولكن وزير الجبهة الداخلية، جلعاد اردان، المقرب من نتانياهو، قال إن اسرائيل يمكن ان تكتفي باتفاق موقت جيد تجري عليه تعديلات حقيقية توقف المشروع النووي الايراني تماماً خلال المفاوضات. وقال: «إذا نجحنا في ذلك، فإن البشرية كلها ستكون مدينة لإسرائيل ولنتانياهو شخصياً بالفضل في إبعاد الخطر». وقال اردان إن المشروع الايراني يقلق دولاً عدة في المنطقة ويهدد بتوسيع رقعة التسلح النووي وضرب المصالح الغربية. وهناك مجال لأن تلعب فرنسا دوراً في الوصول إلى هذه الدول والتنسيق بينها وبين اسرائيل في مجابهة المشروع الايراني. لكن مواقف نتانياهو ورفاقه جوبهت بتشكيك واضح في الساحة السياسية والإعلامية الاسرائيلية، خصوصاً أن تظاهرته لمصلحة فرنسا ترافقت مع حملة تحريض على وزير الخارجية جون كيري، ورئيسه أوباما. فأكدوا أن الضجيج الذي يحدثه يضلل المواطنين. ففرنسا ليست مع اسرائيل في الخندق نفسه، لأنها تنسق مواقفها مع واشنطن ولا تحيد عن خط واشنطن. وقد كتب ايتان هابر، مدير عام مكتب رئيس الحكومة إبان حقبة اسحق رابين (1992 - 1995) يذكّر نتانياهو بأن فرنسا ليست الدولة العظمى التي تدفع لإسرائيل ثلاثة بلايين دولار في السنة مساعدة مالية وعسكرية ولا تستخدم حق الفيتو ضد قرارات مجلس الأمن التي تدين اسرائيل وليست الدولة التي توفر لإسرائيل غطاء أمنياً وسياسياً في كل المعارك. إنها واشنطن التي تفعل. ولا يجوز الظهور في خلاف وتوتر مع إدارتها. فهذا ليس صحيحاً من الناحية الأخلاقية ولن يمر عليه الأميركيون مرور الكرام وسيدفعون نتانياهو ثمناً باهظاً مقابله. وكتب المراسل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، ألكس فيشمان يقول إن العناق الاسرائيلي-الفرنسي يشبه حالة العناق الذي تجريه امرأة حتى تستثير غيرة زوجها الشرعي في واشنطن. فهو عناق مصالح ضيقة يتم في اطار استغلال ضعف مكانة الولاياتالمتحدة. ويضيف ان الادارة الأميركية غاضبة جداً من حكومة اسرائيل، وليس فقط بسبب مواقفها العلنية من الموضوع الايراني، بل في الأساس من نشاط حكومة نتانياهو في الكونغرس ضد إدارة اوباما. ويقول إن الأميركيين سيجبون ثمن هذه التصرفات في القريب، ليس فقط في الموضوع الايراني بل أيضاً في الموضوع الفلسطيني. رئيس وثلاث شخصيات صحيفة «معاريف» خرجت بعنوان صارخ تقول فيه إن هولاند ظهر في الايام الثلاثة لزيارته، بثلاث شخصيات مختلفة. في كل يوم لعبت كل شخصية دوراً مختلفاً. في اليوم الاول في اسرائيل، تحدث هولاند عن ايران وأهمية التصدي لمشروعها النووي، كما لو انه نتانياهو، وطرح مواقف مماثلة للمواقف الاسرائيلية. في اليوم الثاني، توجه الى رام الله وزار ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات والتقى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وأبدى مواقف واضحة ضد سياسة البناء الاستيطاني الاسرائيلي، كانت كما لو ان ابو مازن يتحدث. اما يومه الثالث والأخير في اسرائيل فظهر بشخصية رجل اعمال بل مبيعات، كما سمّاه الاسرائيليون، الذي يطمح الى أن يرى نمواً أكبر لاقتصاد فرنسا في اسرائيل. وكما كتب الاسرائيليون في تحليلهم لزيارة هولاند، فإن زيارته الى الشرق الاوسط جاءت في محاولة لاستغلال الاوضاع التي تشهدها المنطقة، اذ تريد فرنسا أن تستغل مكانتها في العالم العربي لزيادة تأثيرها، بل تحلم بأن ترتفع مكانتها ويكون لها تأثير في التغيير في السياسة الاميركية في الشرق الاوسط وفي ملف التهديد الذري الايراني». حقيقة ما تسعى اليه فرنسا كانت واضحة للاسرائيليين وقد اطلقوا عليها تسميات عدة. الخبير في الشؤون السياسية، بوعز بسمت، احد ابرز محرري صحيفة «اسرائيل اليوم»، الصحيفة المقربة من نتانياهو، اطلق على الزيارة «شهر عسل» وقال انها عودة الى العلاقات التي كانت بين فرنسا وإسرائيل في منتصف ستينات القرن الماضي، لكن قد تسبب خيبة أمل لأولئك الذين رفعوا سقف التوقعات الى ارتفاعات غير معروفة. ويأتي حديث بسمت انطلاقاً من تحليلاته لجوانب عدة محلية اسرائيلية ودولية: - التفاوض مع ايران: فالرئيس الفرنسي الذي وعد بأن يبقى «صديق اسرائيل الى الأبد»، لا ينوي أن يقلب الطاولة مع الولاياتالمتحدة وبقية حلفائها وسيواصل التلاؤم في الموقف معها. - فرنسا تظهر منذ سنوات توجهاً أشد صرامة من الاميركيين في مطالبها من ايران، ومواقفها التي تعجب اسرائيل لم تتم بتأثير من موقف القيادة الاسرائيلية. بل نتيجة لحسابات مصالح فرنسية بحتة. ويقول بسمت: «يجب أن نتذكر أن فرنسا تملك سلاحاً ذرياً وتبيع دولاً كثيرة في العالم مفاعلات ذرية لإنتاج الطاقة. ولهذا يدقق الفرنسيون في تفاصيل التفاوض ويُظهرون تشكيكاً زائداً في الايرانيين». - وعد هولاند بعمل دؤوب ومثابر في فرنسا لمنع ايران من امتلاك سلاح ذري الى الأبد. علماً ان فرنسا، حتى الآن، تقف في موضوع التسلح النووي الايراني في صف واحد مع القوى العظمى التي تُجري التفاوض. - سيؤيد هولاند، وهو صديق مقرب للرئيس اوباما، اتفاقاً تصوغه القوى العظمى مع ايران حتى لو عبّر مندوبوه عن مواقف سلبية صارمة حتى التوصل الى اتفاق. - سيكون وهماً أن نفترض أن الفرنسيين يُمثلون نتانياهو في التفاوض. فأفضل ما يستطيع الجانب الاسرائيلي أن يتوقعه من توجه فرنسا يتعلق بتحسين شروط الاتفاق لا غير. وتوجد موافقة من المجتمع الدولي على أن ايران تستطيع الاستمرار في تخصيب اليورانيوم وأنها غير مضطرة الى إخراج اجهزة الطرد المركزي منها، وأن الاتفاق المرحلي سيجمد الوضع الحالي فقط. - التنازل الايراني المهم يتعلق باستعداد طهران للسماح برقابة دقيقة على كل المواقع المعلومة للغرب. وسيُبين لإيران مع ذلك أن كل محاولة منها لخداع القوى العظمى ستعيدها الى النقطة التي هي موجودة فيها الآن والى تشديد العقوبات عليها. ويقول بسمت: «صحيح أن هولاند وعدنا بأن يبقى صديقنا الى الأبد. لكن التاريخ المركب للعلاقات بفرنسا يعلمنا درساً واحداً وهو أن الامور قد تتغير. ويذكرنا ما قاله ديغول في تشرين الثاني 1967 عن اسرائيل: «شعب متسلط ونخبوي وواثق بنفسه». إن حلفاء الأمس أصبحوا خصوم اليوم»، ويلفت بسمت مخاطباً الاسرائيليين: «حينما يتم الحديث عن علاقات بين دول لا يجوز أن نتأثر بالعناق وبتصريحات الحب». وهكذا، فإن زيارة هولاند كانت بالنسبة الى نتانياهو عملية دعائية حزبية له أكثر من أي شيء آخر، ولن تقدم أو تؤخر شيئاً في المشروع الايراني.