لطالما شهدت الخرطوم وغيرها من المدن السودانية، تظاهرات سنوية تعترض على زيادة الحكومة لأسعار النفط وغيره من المواد الضرورية. وعلى سبيل المثال، عندما قصدت المدينة في العام 1982، انطلقت تظاهرات من النوع المذكور في مطلع كانون الثاني يناير، وشملت بمعظمها تلاميذ مدارس، واعترض المسيرات في أرجاء وسط المدينة غاز مسيّل للدموع وضرب بالعصي، وجاءت في موازاتها تظاهرات على نطاق أضيق داخل جامعة الخرطوم. والملفت أنّ المسألة كانت تنتهي على خير عموماً، ولا يتخلل الأحداث إلا عدد قليل من الإصابات البالغة، في حين يسعد معظم أصدقائي العاملين في المجال الأكاديمي بتمضية وقت إضافي في النادي، قبل أن تهدأ الأمور وتعود الجامعة ومدارس العاصمة المقفلة للعمل كالمعتاد. وخلال السنة الجارية، انطلقت تظاهرات من هذا القبيل أواخر أيلول سبتمبر، رداً على إعلان يفيد بإلغاء الإعانات الداعمة لسعر النفط، ووقود الديزل، وزيت الطهي، والقمح، جرّاء ضغوط من صندوق النقد الدولي. وتمثّلت النتيجة على ما يبدو بمشاركة أعداد أكبر من المتظاهرين، شملوا مجموعات لم تعهد المسيرات، إلى جانب أعمال عنف زادت عن حدّها المعتاد، أقدمت عليها قوات الأمن، مستعينة بالذخائر الحية أحياناً. ولعله سبب تواصل الاحتجاجات لعدد أكبر من الأيام، واشتمالها على هجمات طاولت أهدافاً أوسع نطاقاً، على غرار مراكز الشرطة والمكاتب الحكومية، إلى جانب زيادة حجم المطالبات، التي راوحت بين وضع حدّ لقمع النظام، وبين الدعوة لإنشاء مجلس دستوري يعيد بناء المؤسسات الحيوية للدولة. وما يثير الاهتمام أيضاً هو أن كلّ ما حصل أدّى إلى انطلاق نقاش عام غاضب حول السبب الذي حضّ قوى الأمن على إظهار ردّ فعل أكثر عنفاً من المتوقّع، في سياق ما يدخل في عداد الأحداث الاعتيادية. ولا شكّ في أنّ السؤال وجيه، فمن الواضح أن القائد النافذ للبلاد، الجنرال عمر البشير، شعر بقلق أكبر من المعتاد، بصفته قائد دولة كبيرة يؤدّي اتّساع مسافاتها الداخلية، وتسبّبه بزيادة أسعار النفط، إلى ارتفاع كل ما تبقّى من تكاليف. وثمّة ثلاثة أسباب مطروحة، أولها التوتر الواضح الذي يختبره أي قائد عربي يخشى أن تؤدّي القوى النافذة التي ولّدها الغضب الشعبي، خلال ما يسمّى بالربيع العربي في دول مصر وليبيا وتونس القريبة، إلى مشاكل في الخرطوم أيضاً. وثانياً، يسود خوف شبه مؤكّد من أن تكون قوات إسلامية مسيّسة على غرار"الإخوان المسلمين"إما متورّطة في التظاهرات، أو مستعدّة للمشاركة فيها، في حال بات الوضع الأمني خارجاً عن السيطرة. إلا أن أكثر سبب يثير الاهتمام بنظري هو الثالث، حيث أنّ نفوذ الرئيس لم يتراجع فقط في السودان، إذ تشير أدلّة أيضاً إلى أن رجالات نافذة، تحتل أعلى المراكز في الجيش والمؤسسات الأمنية ذات الصلة، تثير التساؤلات بشأن كفاءة الرئيس المستمرة في منصبه القيادي. وتبدو بعض أسباب ذلك متجلية نسبياً للعيان، وأهمها إقدام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي على إدانة البشير في العام 1989 لارتكابه جرائم حرب مزعومة في دارفور، ما جعل سفره، وبالتالي عرضه لمصالح بلاده خارج حدود أراضيها، أمراً مستحيلاً. وتشمل أسباب أخرى الطريقة التي أدار فيها انفصال جنوب السودان والوضع الأمني المتدهور جرّاء خسارة العائدات النفطية المرافقة للمستجدات الحاصلة. وفي هذا السياق، تُعطى أهمية كبرى لإعلان البشير عن تقاعده بعد الانتخابات الرئاسية التي ستجري في العام 2015، وهو إعلان يمكن النظر إليه على أنّه محاولة للحد من الخلافات ضمن النخبة، ومحاولة لرصد المجموعات التي قد تتولى مهمة إيجاد خلف للبشير. وقد يُنظر إليه على أنه امتحان للدعم الأجنبي، متى كان الأمر مرتبطاً بالولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي والعالم العربي، بعد أن بات التحكّم بحركة المرور بين شرق الصحراء وغربها بالغ الأهمية، نتيجة استحواذ جهاديين على مخزونات كبيرة من الأسلحة الليبية المنهوبة، ناهيك عن أدلة تشير إلى أن مجموعات مرتبطة بتنظيم"القاعدة"تشقّ طريقها غرباً، في محاولة منها لزعزعة استقرار دول تُعتَبر نسبياً أكثر عرضةً للمخاطر وإسلامية في جزء منها، في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، على غرار النيجر والغابون. وبصفته من الجيران المقرّبين لدول المغرب العربي، يرجّح أن يكون البشير منزعجاً من القلق الذي أعرب عنه الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك خلال الشهر الماضي، بشأن التونسيين الشبّان المنطلقين من أرجاء الجزء الشرقي من دول المغرب، للمشاركة في القتال في سورية، وجرّاء الإدراك المفاجئ للحكومة الجزائرية أن الأمن ليس ممسوكاً كما يبدو في الجزء التابع لها من الصحراء الغنية بالنفط. ولكن يبدو، على خلفية ما سبق، أنّ أكثر ما يثير الاهتمام مرتبط بالأوراق التي لا يزال البشير ممسكاً بها، ولا سيّما تقدير زملائه لمهاراته وقدراته الإدارية في دولة يُنظَر فيها إلى الإقناع، والثقة، والسمعة عموماً، على أنها أصول أهم من ممارسة السلطة، والقدرة على بثّ الخوف في النفوس. أي بعبارة أخرى، إنهم بحاجة إليه بقدر ما هو بحاجة إليهم. إلى ذلك، تولى أهمية أيضاً إلى الضيق الظاهري لنطاق قدرتهم على إيجاد شخص يتمتع بالمهارات ذاتها، بالنظر إلى المحدودية الكبيرة للآليات المتوفرة للتدرّب أثناء العمل ولمشاركة التجارب. ومن الأفضل للبلاد أن يكون البشير قد منحها السنتين السابقتين لانتخابات العام 2015 كي تعثر على خلف محتمل له. ومن حسن حظ السودان أيضاً ألا يكون البشير قد أنجب أبناء. وبالتالي، ومهما حصل، لا احتمال باعتماد الطريقة السورية، حيث انتقل الحكم بالوراثة من حافظ إلى بشار الأسد. يبدو الآن أن الهدوء عاد إلى الخرطوم، بمعنى أن القمع الزائد عن حدّه المعتاد، الذي مارسه عمر البشير ضد سبل الاحتجاج التقليدية لشعبه، أعطى نتيجة. بيد أنّ الأمر سيبقى كذلك فقط حتّى موعد الاحتجاجات القادمة، التي ستعاود الانطلاق بعزم قوي وضراوة، في أوساط شريحة أكبر من المجتمع الحضري المُصرّ على ضرورة مضيّه قدماً في ما يفعله. فالمشاكل الاقتصادية في البلاد جدّية للغاية، ما يحول دون الشعور بالارتياح. وفي سياق ذلك، يلوح في الأفق يوم الانتخابات المقرّرة في العام 2015، باعتباره الموعد التالي، الذي سيختار فيه زملاء البشير من الجنرالات بهدوء شخصاً يحلّ مكانه، سيكون على الأرجح رجلاً عسكرياً يصغره سنّاً بكثير. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد