في العقدين الماضيين، احتفى الغرب ببروز الهند و"صعودها"قوة اقتصادية، ولكن ثمة نزاعات ثقافية جديدة ولدت من رحم التغيرات الاقتصادية والسياسية في هذه الأمة. وبرزت دينامية هذه النزاعات في حادثة اغتصاب شابة في باص الشهر الماضي في نيودلهي. ومن اليسير إلقاء تبعة مثل هذه الحادثة على الثقافة الرجعية المعادية للنساء، لكن التغيرات الاجتماعية السريعة هي كذلك عامل من عوامل تعاظم العنف ضدهن. ومع تعاظم هامش الحريات الشخصية في الهند الجديدة، خرج عدد كبير من الهنود عن العادات القروية، وانتخبوا مجموعة معايير جديدة ليهتدوا بها في المناطق المدينية. لكن المعايير هذه لم تملأ الفراغ الناجم عن أفول التقاليد فتفاقم العنف الجنسي وتفشى. سبق لي العيش في نيودلهي، ودرجت الهنديات على تحذيري من البقاء في"عاصمة الاغتصاب الهندي"، وإطلاعي على حوادث مرعبة تميط اللثام عن نقص الأمان في هذه المدينة. وبين 2002 و2007، بلغ عدد حالات العنف الجنسي الموثقة المئات. وكانت العاصمة الهندية مسرح أعلى معدلات الاغتصاب في الهند في 2011. ولا يملك معظم سكان نيودلهي خيار مغادرتها إلى مكان أفضل، وهم لا يرغبون في ذلك. وتضخم عدد سكان العاصمة في العقدين الماضيين وفاضت بالنازحين الآتين من المناطق الريفية الفقيرة. فنيودلهي هي مدينة الفرص. واليوم، يعيش 350 مليون هندي في المدن، ويتوقع أن ينتقل إليها 250 مليوناً في العقدين المقبلين. كان والدا الشابة التي قضت إثر الاغتصاب والاعتداء الوحشي نزحا مع عائلتهما إلى ضاحية نيودلهي من قرية في أوتار براديش، وهي من أفقر الولاياتالهندية. ووفر قطاع الخدمات ومراكز الاتصالات في نيودلهي وظائف كثيرة استقطبت من هم في أدنى سلم التحصيل العلمي وأعلاه. وصار الحلم بالارتقاء إلى عرش الطبقة الوسطى في متناول فقراء كثر. لكن مساعي الالتحاق بقاطرة الطبقة هذه قد لا تكلل بالنجاح. وتوقعات عدد كبير من النازحين إلى المدن لا تصيب، فلا يفوزون بفرص تعليمية أفضل ولا يحظون بالوظائف المشتهاة. فعوامل مثل الفقر والانتماء إلى طائفة دنيا والتمييز الجنسي تعوق مسيرة الارتقاء في السلم الاجتماعي. ففي أوتار براديش وغيرها من الولايات الشمالية الناطقة بالهندية، يتراوح معدل إجادة أصول القراءة والكتابة في أوساط الإناث بين 33 و50 في المئة، وهي نسبة تقل عن نظيرها على الصعيد الوطني في أوساط الذكور 75 في المئة. وخالف أهل الشابة التقاليد وعلقوا الآمال على نجاح الابنة: باعوا قطعة أرض لسداد تكاليف دراستها الجامعية. ووفق مقابلات مع أهلها، حضّت الشابة شقيقيها الأصغر سناً على السير على خطاها والالتحاق بالجامعة. وحازت أخيراً فرصة التدرب في عيادة علاج فيزيائي بمستشفى خاص في نيودلهي. وبدا أنها بدأت ترسي أركان مسيرة مهنية يعتد بها في سلم المهن. ووقوع الهجوم في نيودلهي لا يجافي المنطق، فهي أسرع المدن نمواً في العالم. وهي تزعم أنها مشرعة الأبواب أمام النساء"المعاصرات"اللواتي يقصدن الجامعة ويلتحقن بسوق العمل خارج المنزل. ولكن، على خلاف هذه المزاعم، انفتاح العاصمة محدود. فنيودلهي تجمع نازحين من منابت مختلفة ينطقون بألوان مختلفة من عشرات اللغات، ويتحدرون من أديان وطوائف متنوعة. ولا يجمع بين هؤلاء النازحين سوى انتسابهم إلى قرى ريفية تقليدية. وفي ضوء هذه الظروف، تبدو نيودلهي حائرة ومتنازعة في غياب معايير اجتماعية وثقافية جامعة. وعلى رغم الأخطار، تقبل النساء على استخدام سيارات الأجرة والباصات ليلاً، لكن سائقي سيارات الأجرة وأصحاب المتاجر وغيرهم من الغرباء ينصّبون أنفسهم في موقع الأولياء ويسألون النساء عن دواعي الخروج بعد هبوط الظلام. وعلى رغم أن مطاعم المدينة ومرافقها لا تحظر"رسمياً"أن يرتادها أشخاص من طوائف مرتبتها متدنية، سواء كانت هندوسية أو مسلمة، ثمة مرافق كثيرة تغلق الأبواب في وجه بعض أبناء هذه الطوائف. وتتزامن مغادرة الهنود القرى الريفية مع فقدانهم شبكة الحماية والمساءلة التي تنسجها الجماعة المترابطة. وانفراط عرى الشبكة هذه لا يعود إلى الانعقاد والالتحام في المدينة، ولو نزلت العائلة في أحياء واحدة مع أبناء القرية. وهذه حال أربعة من مهاجمي الشابة. فأواصر ارتباطهم بالجماعة مقطوعة. والمدينة تغلف أمثالهم بستار غفل لا تعرفه القرى. فينعتقون من قيود الجماعة وتوقعاتها، ويخسرون كذلك الشعور بالفخر المستمد من الانتساب إلى الجماعة الأوسع. لكن ثمة وجهاً إيجابياً لغفل المدينة. فأبناء طائفة الداليت، وهي في أدنى السلم الاجتماعي، يغيرون أسماءهم ويتخلصون من الوظائف التقليدية التي يُلزمون بها على غرار تنظيف المراحيض والشوارع، ويقدمون أنفسهم على أنهم من أبناء طائفة أعلى. ومهاجمو الشابة هم من النازحين إلى العاصمة. اثنان منهم شقيقان من قرية في ولاية راجاستان يقيمان في إحدى عشوائيات نيودلهي منذ انتهاج الهند سياسات لا تناوئ اقتصاد السوق مطلع التسعينات. وترك الشقيقان المدرسة للعمل ومساعدة الأهل. وبعد بلوغهما سن الرشد، ذاع صيت إفراطهما في معاقرة الكحول في العشوائية. قصاص الجماعة قد يردع المغتصب عن ارتكاب فعلته. ففي القرى، يحرم المغتصب وشقيقاته وأولاد عمه من الزواج. وفي كانون الأول ديسمبر المنصرم، أعلن مجلس بلدة في ولاية هاريانا أن جزاء المعتدي جنسياًَ على شابة هو إفراده وعائلته إفراد البعير. والإجراءات القروية هذه قد لا تتماشى مع معايير الديموقراطية والحداثة، لكنها رد الجماعة على الخروج عن سننها. وفي نيودلهي وغيرها من المدن، لم تملأ قيم مدنية وحضارية الفراغ الذي خلفه انحسار وطأة الجماعة وما تنتظره من أبنائها. وبين 1973 و2010، انخفض في الهند معدل إدانة المغتصبين والحكم عليهم من 44 إلى 26.5 في المئة. وإثر الاغتصاب الجماعي للشابة، عاب الناشطون الهنود على الشرطة والقضاء الاستخفاف بالجرائم الجنسية وعدم توفير موارد لمكافحتها، كأن وزنها أدنى في ميزان الجريمة. واضطرت أخيراً شرطة العاصمة الهندية إلى المسارعة إلى القبض على المعتدين بعد أن عمت تظاهرات الاحتجاج الهند. وفي الأسبوع الماضي، وجهت تهمتا القتل والاغتصاب إلى 5 شباب، والسادس قاصر، أحيل على محكمة مختصة بأبناء عمره. دخول الهند العالم الأوسع ومسرحه ساهم في زعزعة"ثوابت"العلاقات الجنسية والأخلاقية والتقاليد. فالقيم لم تعد راسخة ومستقرة، وهي متغيرة وسائلة. ولا يملك أحد يقين البت في ما هو جائز وغير جائز. إحدى قنوات التلفزيون الهندية تعرض سلسلة"الجنس في المدينة"الأميركية، وقناة أخرى تعرض صور نجمات بوليووديات نسبة إلى بوليوود لا يسترن أجسامهن، وعلى قناة ثالثة تبث صلاة هندوسية. ومثل هذه التأثيرات الثقافية لم تكن مألوفة قبل جيل من الزمن. وإلى 1991، احتكرت السلطات العامة البث التلفزيوني، ولم يكن السفر لقضاء إجازة أو العمل في الخارج شائعاً. وكان الاحتكاك بالأجانب حكراً على قلة من الهنود. وارتفع معدل الاغتصاب في الهند 25 في المئة في السنوات الست الماضية. ويقال إن هذا الارتفاع مرده إلى إقبال النساء على الإبلاغ عن حوادث العنف الجنسي والادعاء على المعتدي، على رغم النتائج"الوخيمة"لمثل هذا الإبلاغ فسمعة المغتصبة وأهلها تتشوه، وحظوظها في الزواج تتضاءل. وأقر أخيراً رئيس الوزراء مانموهان سينغ بأن ثمة نزاعاً يتجاذب بلاده ناجماً عن انفتاح الهند السريع على العولمة وبطء تغير العادات والثقافة المحلية. ف"ولوج النساء دوائر العلانية العامة هو من أركان التحرر الاجتماعي. ويترافق مع تعاظم الأخطار على سلامتهن"، على قول سينغ. * مراسلة، صاحبة"الحياة والحب في الهند"، عن"واشنطن بوست"الأميركية، 4/1/2013، إعداد م.ن.