قبل يومين من موعد الاقتراع في فرنسا، فوجئ مدير حملة انتخابات فرانسوا هولاند بملصقات ضخمة تملأ شوارع باريس يظهر فيها نيكولا ساركوزي وهو يصافح الرئيس الاميركي باراك اوباما. وعلى الفور اتصل مدير حملة المرشح الاشتراكي بالسفارة الاميركية في باريس، ليسأل عن حقيقة موقف البيت الابيض من المرشحين المتنافسين! وجاءه الجواب الصريح بان اوباما يقف على مسافة واحدة من المرشحين، وان المفاضلة غير واردة في هذا المجال. ولما تبلغ هولاند خلاصة الموقف الاميركي المحايد، أدرك ان منافسه يحاول استثمار صداقته مع اوباما على امل رفع شعبيته المنهارة. عندها تأكد له ان ساركوزي سيسقط، كونه لجأ الى استخدام اسلوب دعائي غير مستحب. المراقبون في فرنسا يحسبون ان ساركوزي خسر أيضاً معركته الاخيرة خلال المناظرة التي جرت بينه وبين هولاند، ذلك انه استخدم مصطلحات استفزازية بغرض إحراج منافسه وإظهاره بمظهر الضعيف العاجز. ولكن المرشح الاشتراكي رد على التحديات بكثير من اللطف والتهذيب وهدوء الاعصاب. وكان هذا السلوك واضحاً امام متتبعي المناظرة الذين قدرت اعدادهم ب 18 مليون مشاهد، ظلوا مشدودين الى الشاشة مدة ساعتين وخمسين دقيقة. وقد ركز ساركوزي في ادائه على انتقاد الهجرة والحد من الإنفاق العام، مطالباً بزيادة التعاون مع ألمانيا... في حين شدد هولاند على خفض البطالة وتحسين مستوى التعليم والمساواة الاجتماعية والحفاظ على القوة الشرائية وزيادة الضرائب على الاغنياء والشركات المصرفية. اثناء الحملة الانتخابية، اطلق الاشتراكيون على ساركوزي اوصافاً مؤذية مثل"مرشح الاثرياء"وصديق الطاغية معمر القذافي الذي مول حملته الانتخابية قبل خمس سنوات. وكان موقع"ميديا بارت"نشر وثيقة وقعها موسى كوسى، رئيس الاستخبارات الخارجية السابق في ليبيا والمقيم حالياً في الدوحة، تزعم ان القذافي وافق على تمويل حملة ساركوزي بقيمة خمسين مليون يورو. وبحسب الموقع، فإن بشير صالح، الرئيس السابق للاستثمارات هو الذي تلقى المذكرة. وقد أكد المسؤولان الليبيان السابقان ان الوثيقة مزورة، والمعلومات ملفقة، وان كل ما يشاع لا اساس له من الصحة. ويبدو أن ساركوزي قد لجأ هو الآخر الى اسلوب التشويش والتضليل، عندما زعم ان هولاند حصل على دعم سبعمئة مسجد بواسطة الداعية الاسلامي السويسري المصري الاصل طارق رمضان، مقابل تعهد بتنظيم اوضاع كل الاجانب المقيمين في فرنسا بصورة غير قانونية. ونفى رمضان هذه المزاعم، لانه ليس فرنسياً، ولكنه لم ينكر انه دعا المسلمين الفرنسيين إلى الانتخاب وفق ضمائرهم. ومع أن ساركوزي اعتمد على تأييد الجاليات الإسلامية طوال فترة ولايته، إلا أن أحداث آذار مارس وما صدر عن محمد مراح من أعمال ارهابية في تولوز، قطعت حبل الود بينه وبين اتحاد المنظمات الاسلامية في فرنسا. خصوصاً بعدما وصف سلوك المهاجر مراح بسلوك"وحش ضار يتجول في فرنسا". وشكلت تلك العبارة صدمة سياسية ضاعفت من نقمة الجالية الاسلامية ضد رئيس وضع"قانون الخمار"، كأنه بذلك يريد التبرؤ من موقفه السابق، أي الموقف الذي دفعه الى انتقاء رشيدة الداتي مغربية من ام جزائرية وزيرة للعدل في حكومة 2009. تماماً مثلما اختار فرانسوا هولاند فرنسية من جذور مغربية هي نجاة بلقاسم، ناطقة باسمه في انتخابات الرئاسة. وكان من الطبيعي ان تتهمها العناصر اليمينية بازدواجية الولاء، وتشكك في اخلاصها للدولة الفرنسية باعتبارها تعمل على تعزيز الهوية المغربية. وقد اضطر هولاند للدفاع عن دورها الريادي امام تهجمات الصحف المحافظة مثل"لوفيغارو". الرئيس المنتخب هولاند عبر عن شكره لنجاة بلقاسم في اكثر من مناسبة. وهو يعترف بأنه مدين لنشاطها المميز في اقناع غالبية الجالية المغاربية بالتحول نحوه عقب ارتباط وثيق وطويل مع اليمين الممثل بجاك شيراك ونيكولا ساركوزي. ويقول السفراء العرب في باريس، ان هذا التحول أعطى هولاند ما يحتاجه من نقاط للفوز، أي ما يقارب من مليون ومئتي ألف صوت كانت كافية لحسم المعركة لصالحه. الصحف الفرنسية استعارت حكايات لافونتين على ألسنة الحيوانات، لتصف فرانسوا هولاند بالسلحفاة البطيئة، الدؤوبة التي وصلت الى الهدف قبل الأرنب السريع والمغرور. ولم يكن الارنب هذه المرة سوى نيكولا ساركوزي، الذي رفض فكرة وصول منافسه الى قصر الإليزيه، ذلك انه كان يرى فيه صورة السياسي من الدرجة الثانية الذي عمل مساعداً للاشتراكي فرانسوا ميتران المعروف بكراهيته لديغول والديغولية. والمؤكد ان والده الطبيب جورج هولاند كان قد سبق ميتران في هذا المضمار. ويتذكر ابناء بلدته مواقفه المخلصة للمارشال فيليب بيتان، رئيس نظام فيشي المتعاون مع المحتل النازي. وكان الوالد جورج يتعمد تحقير المقاومة الديغولية، لأنها -في نظره- لم تكن اكثر من"مقاومة الساعة الاخيرة"، أي أنها وصلت متأخرة الى ساحة النضال، وقطفت ثمار نصر صنعه سواها. في معرض الدفاع عن سياسته الخارجية المنسجمة مع سياسة الولاياتالمتحدة، اتهم ساركوزي زعيم الحزب الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران بالوقوف وراء واشنطن، في حين كان ديغول مستقلاًّ في قرارته. وعدد ساركوزي للصحف التحولات التي اجراها ميتران على سياسة حزبه بحيث تبقى داعمة لسياسة البيت الابيض. كما تحدث عن التأييد الذي قدمته فرنسا اثناء حملة نشر صواريخ نووية اميركية فوق الاراضي الاوروبية سنة 1991. وقال ايضاً ان فرنسا الميترانية كانت السباقة بين الدول الاوروبية للانضمام الى التحالف العسكري الذي اخرج قوات صدام حسين من الكويت. وعليه، يرى ساركوزي ان كل الوعود التي اغدقها خلفه الاشتراكي فرانسوا هولاند ليست اكثر من وعود عرقوبية اطلقها خلال الحملة الانتخابية، بغرض استمالة اليمين والوسط. المراقبون في فرنسا يتوقعون حدوث"التغيير"الذي وضعه هولاند شعاراً لحملته الانتخابية، مقلداً بذلك شعار الحملة التي اطلقها الرئيس الاميركي باراك اوباما. وبما ان ارضاء قيادة القوات المسلحة سيعزز مركزه الرئاسي، فإنه مضطر الى تتفيذ وعده بسحب قواته من افغانستان قبل نهاية هذه السنة. صحيح ان هذه الخطوة قد تعرضه للاختلاف مع قيادة الحلف الاطلسي، الا انها ستأتي في سياق التحول الاستقلالي الذي وعد به الناخبين. على المستوى القاري، يرى انصاره انه مصمم على اعادة النظر في علاقة فرنسا مع الدول العربية التي لفحتها رياح"الربيع العربي". ومن المؤكد ان اعادة صوغ هذه السياسة ستأخذ في الاعتبار مصالح بلاده مع المغرب والجزائر وتونس وليبيا. أي الدول المرتبطة بالمؤسسات التجارية ونزاع الصحراء ومشاكل الهجرة والمهاجرين. صحيفة"طهران أمروز"القريبة من المرشد علي خامنئي، توقعت في افتتاحيتها تغييراً نحو ايران، بعدما قاد ساركوزي حملة الحصار الاقتصادي والعقوبات التجارية. ورأت ان عملية كشف النيات المبيتة ستظهر في مؤتمر بغداد 23 الجاري حيث سيجتمع ممثلو مجلس الامن لمناقشة توصيات مؤتمر اسطنبول. وكان المرشح الاشتراكي قد ايد سياسة ساركوزي في القضايا المتعلقة بمنع طهران من حيازة السلاح النووي، وضرورة معاقبة سورية باستخدام الوسائل العسكرية التي استخدمت في ليبيا. والملاحظ أن الإشارات التي اوردتها الصحيفة الايرانية كانت بمثابة فتح صفحة جديدة مع فرنسا في عهدها الجديد، خصوصاً بعدما أعلن هولاند انه مؤيد لموقف اوباما الداعي الى حل المسائل العالقة مع طهران عن طريق المفاوضات. وفي حال اتخذ الرئيس الجديد هذا المنحى، فإنه يكون قد رسم لنفسه خطاً سياسياً ربما يقضي في المستقبل الى معالجة الكثير من المشاكل المتعلقة ب"حزب الله"ومستقبل النظام السوري. المحللون في الصحف الفرنسية لا يتوقعون تغييراً عميقاً خلال الايام القليلة المقبلة لان الانتخابات النيابية ستجري الشهر المقبل. لذلك يستعد حزب ساركوزي للانتقام من الاشتراكيين بابراز قوته الشعبية، ومنعهم من السيطرة على البرلمان. وربما يقوم الرئيس السابق باقناع مارين لوبن، زعيمة الجبهة الوطنية، بعقد تحالف معها، كونها حلت ثالثة في الدورة الاولى لانتخابات الرئاسة. ومع هذا كله، فان ساركوزي مؤمن بأن وجوده في الحكم اضره خلال المناظرة باعتباره تولى مهمة الدفاع امام منافسه المهاجم دائماً. وكان بهذا الوصف يشير الى المناظرة التلفزيونية الاولى التي جرت في الولاياتالمتحدة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون. وقيل في حينه ان وسامة كينيدي وجرأته في الدفاع عن منطقه حققتا له الغلبة امام جماهير المشاهدين. وعندما خاض فرانسوا ميتران المناظرة امام فاليري جيسكار ديستان، نصحه طبيب الاسنان"بتظبيط"أسنانه النافرة. كما نصحه مدير حملته بمخاطبة الجمهور بصوت منخفض هادئ بعيد عن الانفعال والتهجم. ولو نفذ فرانسوا ساركوزي نصيحة زوجته كارلا بضرورة التزام الهدوء والابتعاد عن الانفعال والتشنج، لكانت النتيجة لعبت لصالحه! * كاتب وصحافي لبناني