استبق الروائي الأميركي الفرنسي جوناثان ليتل، الروائيين العرب في دخول مدينة حمص وجوارها، وكتب بتكليف من صحيفة"لوموند"الفرنسية،"ريبورتاجاً"سردياً نُشر متسلسلاً، وهو سيصدر حتماً في كتاب قد يكون فريداً بمادته وبالقضية التي يتناولها. ربما ليس مطلوباً من الروائيين العرب أن يغامروا أو يخاطروا مثلما غامر -وخاطر- هذا الروائي الذي"غطى"سابقاً حروباً عدة وكتب عنها نصوصاً و"ريبورتاجات"سردية، فهم ليسوا بغرباء عن مدينة حمص التي قصدها هذا الكاتب الغريب، ونظرتهم إليها تختلف حتماً عن نظرته هو إليها، وقد لا يعنيهم الفضول الذي دفع هذا الكاتب الى الوقوف على مأساة هذه المدينة وأهلها. إنهم يناضلون اصلاً مع ثوارها ولو عبر البيانات التي يوقّعونها أو المقالات التي يكتبونها. لكنّ مَن يقرأ"الريبورتاج"السردي الطويل الذي كتبه الروائي الفائز بجائزة غونكور عام 2006، يدرك ماذا يعني ان يدخل روائي قدير جحيم المعارك وخطوط النار، وأن يخرج بنصوص بديعة، التقط إيقاعها وصورها ولغتها من صميم اللحظات التي يحياها الناس ويقاسونها، خوفاً وبطولة وأملاً... كتب الروائي نصوصه تدريجاً، سارداً تفاصيل هذه المغامرة القاسية التي انطلق بها من مدينة طرابلس متجهاً الى الأراضي السورية، عابراً القرى والحقول والدروب الخفية، وصولاً إلى حمص وضواحيها. وعندما يصل هذه المدينة يجوب ما أمكنه من أحيائها ومناطقها، متحدثاً إلى الناس وجنود الجيش السوري الحر. ثم يدخل مستشفياتها، ناقلاً صورة حية عن معاناة الأطباء والممرّضين والجرحى. ولم يغفل المشاركة في تشييع جنازات ضحايا أو شهداء، وبعضهم من الأطفال والفتيان. بدت عينا هذا الروائي أشبه بكاميرا متجوّلة، تلتقط التفاصيل الصغيرة بدقة ورهافة، وتتخطى المشاهد التي تسجلها إلى ما وراءها، الى أبعادها الخفية ومعانيها. لكن الروائي الذي لا يجيد العربية، استمع أيضاً الى الكثيرين من الذين رافقهم وعاش بينهم، ومنهم السائق والجنود والناس الطيبون، الذين رحبوا به ودعوه الى فنجان شاي أو قهوة. قال له السائق أبو عبدو:"الشعب السوري عاش كما في قنّ دجاج: لديك الحق في أن تأكل وتنام وتبيض، هذا كل شيء". ويقول له أحد الضباط في الجيش الحر:"إذا تخلّى عنا العالم ليدعم بشار الأسد، سنكون مجبرين على إعلان الجهاد"... وعندما دخل حي بابا عمرو راح يرسم له صورة شاملة، واصفاً عماراته وأزقته وعادات أناسه... وما كتبه عن بابا عمرو هو بمثابة"وثيقة"يمكن الرجوع إليها، خصوصاً بعدما دمّرت القذائف هذا الحي الشعبي. نصوص سردية بديعة كتبها جوناثان ليتل بجرأة وبساطة وعرف كيف يوظّف فيها خبرته في سرد فصول من الحروب التي عاشها عن كثب، علاوة على لغته الجميلة وأسلوبه السردي، المتواصل والمتقطع، والذي يدمج بين الوصف والقصّ والحوار والتأمل والتحليل... وفي ختام الحلقة الخامسة يسترجع ذكريات أليمة عاشها في البوسنة التي قتل في حربها نحو ثمانين ألف شخص. وكان جوناثان ليتل، أيام نضاله"الإنسانوي"ضد الحرب والجوع، زار دول البلقان وأفغانستان وسواهما، وكتب ما شاهد وعاش، في نصوص وريبورتاجات نشرها لاحقاً. قد يكون"ريبورتاج"الحرب فناً من فنون الكتابة الروائية، وبات يشكّل إرثاً مهماً ساهم في إنشائه روائيون كبار، خاضوا الحروب كصحافيين أو مراسلين، ومنهم أرنست همنغواي وأندريه مالرو وجورج اورويل وجون دوس باسوس وماركيز وآرثر كوستلر... ولم يكتف هؤلاء بأداء أدوار الصحافيين أو المراسلين، بل وظّفوا مشاهداتهم ومعاناتهم في صلب أعمال روائية كان لها صدى في عالم الأدب. وهذا الفن، فنّ ريبورتاج الحروب، لم نعرفه عربياً كظاهرة بذاتها، على رغم إقدام بعض الروائيين على كتابته انطلاقاً من الجبهات وخطوط النار، ومنهم على سبيل المثل جمال الغيطاني ويوسف القعيد، فالحرب غالباً ما حضرت ك"موضوعة"ثيمة في الرواية العربية، ونادراً ما مثلت ك"ساحة وغى"كما يُقال. نصوص جوناثان ليتل ستكون فريدة بجوّها ومقاربتها ونظرة صاحبها الى مأساة حمص و"بطولاتها"وأخطارها، وهي لا تمكن مقارنتها بما يُكتب الآن في سورية أو ما سيُكتب لاحقاً. اليوميات الجميلة والمؤثّرة التي كتبتها الروائية السورية سمر يزبك، لم تتطرق الى الحرب، لكنها سجّلت لحظات مهمة من انتفاضة الشعب السوري، لا سيما ان الروائية شاركت في التظاهرات وزارت مدناً عدة واستمعت الى الناس وهي بينهم... ومنذ ان غادرت سورية إلى منفاها الباريسي أصبحت بعيدة عن ارض المعارك. جوناثان ليتل غادر فرنسا ودخل حمص سراً، ومن هناك كتب، كتب بجرأة وحرية وبراعة.