بعد"الثلثاء الكبير"، حل وقت الإشادة بتلك الظاهرة التي تكثر السخرية بها وتبخيسها وإساءة فهمها:الانتخابات الأولية عند المقترعين الجمهوريين. وكلما طالت في الزمن الحملة الأولية داخل الحزبين الديموقراطي والجمهوري كلما زاد الصخب وظهرت الدناءة واستخدِما للبرهان على أن الجمهوريين في أميركا فقدوا صوابهم. راين ليزا كتب الأسبوع الماضي في"نيويوركر":"لا يُفترض بالأحزاب السياسية أن تتصرف تصرفاً انتحارياً. لكن القوى المحافظة دفعت المرشحين الرئاسيين إلى الحدود القصوى". أما جون هيلمن من مجلة"نيويورك"فوصف المنافسة الحالية على الفوز بترشيح الحزب الجمهوري بأنها"المنافسة الأكثر قابلية للاشتعال والأقل قابلية للتوقع، وتعج بالغرائب والطرائف"، معتبراً ذلك من الإضافات النوعية"الهذا الغاضب"الهذا وفق تقسيم علم النفس لمكونات النفس إلى"الهذا"و"الأنا"و"الأنا الأعلى"، ويشير إلى الدوافع الغريزية بين صفوف الجناح الشعبوي الصاعد في الحزب". دعونا نتفق على أن ذلك لم يكن الجانب الأهم في موسم الانتخابات الأولية. كانت الجدالات السياسية فارغة غالباً فيما أرهقت المشاهدين الطعنات الخطابية والإعلانات الهجومية. وبعد أربع سنوات تقريباً على انتهاء رئاسة جورج بوش ما زال الحزب الجمهوري مصاباً بعطب شامل، ويعاني في سبيل تعريف نفسه في مرحلة جديدة وفي بلد يتغير. ولكن في مقابل هذا الجانب السلبي، تصرف ناخبو الحزب بمسؤولية ملحوظة. وفي وجه التأرجح والهفوات المتكررة التي وقع فيها المرشح الأول الذي لا يراه أحد - من الليبراليين أو المحافظين- جذاباً جداً، تمكن الناخبون من الاختيار بين البدائل، فدرسوا ثم سحبوا تأييدهم للمرشحين واحداً بعد الآخر. منذ مطلع 2011، بالغت وسائل الإعلام في تفسير هذه الظاهرة وتعاملت مع كل تقدم في استطلاعات الرأي لمرشح غير ميت رومني تقريباً بجدية نتائج الانتخابات الأولية الحقيقية ذاتها. ورغم الرغبة المفهومة في التصويت لمصلحة مرشح غير ميت رومني، يواصل الجمهوريون دفعه، ببطء ولكن بثبات - للحصول على تسمية الحزب له - منتقين الخيار الآمن في مقابل ملقي القنابل والأيديولوجيين. كان حزباً مجنوناً ليختار المرشحين هرمان كين أو ميشال باكمان كحاملي لوائه. بيد أن ناخبي الحزب الجمهوري صرفوا النظر عنهما قبل وقت طويل من عمليات الاقتراع الأولى. وما كان لحزب مجنون أن يبالي بمدى طول الجدالات التي يخوضها ريك بيري في شأن العدالة في تكساس. لقد اهتم الناخبون الجمهوريون ومنحوه أقل من صوت واحد لكل ألف دولار أنفقه على حملته. وكان على حزب مجنون أن يرقّي رون بول إلى الترشيح أو أن يلعنه كمهرطق. لكن الناخبين الجمهوريين منحوه المستوى اللازم تقريباً من الدعم والشهرة اللذين يستحقهما كل سياسي غريب الأطوار يلقي أحياناً بعض النبوءات. والحزب المجنون كان ليسمي المرشح الذي قدم التعهدات السياسية الأقل معقولية مثل خطة كين الضريبية، أو الوعد الذي قطعه تيم باولينتي بتحقيق نمو سنوي يبلغ خمسة في المئة أو خطة بيري للضريبة المتساوية، في حين أن الناخبين الجمهوريين اقترعوا لمرشح يتسم جدول أعماله الداخلي بقلة التفاصيل وقلة الخيال عموماً، لكنه بعيد جداً عن الجنون. نعم، ربما أعطى الجمهوريون جون هانتسمان كثيراً من الأهمية، وكان على ناخبي كارولاينا الجنوبية ألا يكافئوا نيوت غينغريتش على زمجرته وإهانته وسائل الإعلام في نقاشاته. لكن اندلاع الجنون هذا أتى ومضى، ثم تكرس نموذجا آيوا ونيوهامبشاير: إنه ليس فراراً من أجل الزواج ب"السيد الخاطئ"اليميني، بل سير وئيد نحو المذبح مع"السيد الصحيح إلى الحد الكافي". حتى ترفيع ريك سانتوروم كآخر مرشح ضد رومني يكشف الجدية النسبية للناخبين الجمهوريين. ومع كل حماقاته وإخفاقاته، يبدو سانتوروم كمرشح رئاسي لائق أكثر من غالبية مرشحي هذا الموسم - فهو أوسع خبرة من كاين وباكمان وتحمل طروحاته مضموناً اكبر من طروحات بيري وأكثر مبدئية من غينغريتش. ولأنه كان عضواً في مجلس الشيوخ لمرتين ممثلاً ولاية يتأرجح ولاؤها السياسي ويحمل سجلاً بإنجازات تشريعية، فهو أقرب بكثير إلى اليميني هوارد دين، منه إلى"اليميني"جيسي جاكسون. فوق كل ذلك، ما نراه في الحملة الجمهورية هو حزب عالق بين جيلين أكثر مما هو حزب فقد صوابه. وبددت كوارث حقبة جورج بوش الابن مخزون الحزب من المؤهلين لتولي المناصب العامة ولطخت اسم آخر محافظ ناجح لولاية كبرى. ووعدت انتخابات 2009-2010 بحصاد من نجوم المستقبل، لكن الحملة الانتخابية الرئاسية الحالية جاءت اقرب من اللازم بالنسبة إليهم. وفي حال وضع السباق الحالي جيب بوش ضد مايك هوكابي وميتش دنيالز، فلن يتحدث أحد عن خروج الحزب عن سكته. لكن الثلاثة هؤلاء وجدوا أسباباً لعدم المشاركة في الانتخابات. ولكن لو أجريت الانتخابات قبل عامين، مثلاً، وشارك فيها كريس كريستي وبوبي جندال وبول ريان وماركو روبيو، لنافست الإثارة على الجانب الجمهوري تلك التي تمتع بها الديموقراطيون في 2008. لكن الأربعة هؤلاء وآخرين يشبهونهم قرروا انهم ليسوا جاهزين بعد. لذا ترك المقترعون في الانتخابات الأولية للاختيار بين مجموعة من المرشحين القدامى الذين جرى تجديدهم وشخصيات تافهة ومرشحي الأقنية التلفزيونية الموزعة بالكابل. وإذا نُظر إلى خيارات الناخبين الجمهوريين لبدا أن هؤلاء صنّفوا انفسهم كناخبين حساسين ومسؤولين ووطنيين على ما يمكن توقعه عقلانياً. * صحافي، عن"نيويورك تايمز"الأميركية، 10/3/2012، إعداد حسام عيتاني