منذ 19 آذار مارس 2011، موعد الاستفتاء على الإعلان الدستوري، تلاحق الأزمات دستور مصر ما بعد الثورة، فبعد خمسة أشهر من التئام الهيئة التأسيسية الموكل إليها كتابة دستور مصر بعد الثورة، لا مؤشرات توافق حول القضايا الخلافية، بل إن الانشقاقات والانسحابات تعصف التأسيسية، الأمر الذي يهدد المشهد السياسي المصري، وينذر بتعطيل الحياة السياسية في مصر. فالدستور ركن أساسي في عملية انتقال البلاد إلى الديموقراطية بعد الثورة التي أطاحت نظام الرئيس حسني مبارك العام الماضي، ومن دون الدستور الجديد لا يمكن إجراء انتخابات لاختيار مجلس شعب جديد، بدلاً من البرلمان السابق الذي حلّته المحكمة الدستورية العليا في حزيران يونيو بسبب بطلان القانون الذي أجريت الانتخابات على أساسه. مشكلات الدستور بدأت مع تشكيل الهيئة التأسيسية لوضع الدستور، خلال حكم العسكر، وما أعقبه من خلافات حادة بين القوى الإسلامية صاحبة الغالبية في الانتخابات البرلمانية الماضية والقوى المدنية التي اعتبرت أن التشكيلة يشوبها"عوار شديد"، وأنها"لا تمثل طوائف المجتمع كافة"، قبل أن تدخل التجاذبات السياسية إلى مرحلة المضمون الذي خرج عن الهيئة التأسيسية. ويبدو أن الخلافات بين التيارين الإسلامي والليبرالي لا نهاية لها، تقع في الغرف المغلقة وسرعان ما تنضح في وسائل الإعلام، لتنشب على إثرها أزمات مستعصية. وعلى رغم محاولات التوفيق والتوافق التي يبذلها حكماء الطرفين حول مسودة الدستور المطروحة للنقاش المجتمعي في الوقت الراهن، تبدو الخلافات أعمق مما يتصور البعض، فضلاً عن أن المسودة الحالية تضم مجموعة من العبارات أو الكلمات"الملغومة"التي تهدد بتفجير الدستور الجديد. وباتت"الجمعية التأسيسية"لكتابة الدستور في مصر في مهب الريح بعدما أثرت غالبية القوى الليبرالية والمدنية ومعها الكنائس المصرية الثلاث، الانسحاب، ما دعا الرئيس محمد مرسي إلى التدخل أكثر من مرة سعياً لرأب الصدع، وكان آخرها استصداره مساء الخميس الماضي إعلاناً دستورياً حصن بمقتضاه تشكيلة التأسيسية ضد طعون رفعها معارضون أمام المحكمة الدستورية العليا، كما منح التأسيسية مهلة شهرين جديدين لإنهاء مناقشتها حول الدستور، غير أن هذه الخطوة أثارت عليه حفيظة غالبية القوى السياسية باستثناء حلفائه الإسلاميين. وساد الغموض حول السيناريوات المحتملة في حالة فشل الهيئة التأسيسية في إنجاز الدستور، في ظل احتدام الصراع بين الإسلاميين والقوى المدنية، وباتت معركة تمرير الدستور الجديد اختباراً قاسياً لشعبية جماعة الإخوان المسلمين، وحليفها التيار السلفي في ظل إصرارهما على المضي قدماً في عملية كتابة الدستور غير مكترثين لانسحاب القوى المدنية التي بدأت هي الأخرى في التصعيد، بداية من الإعلان عن كتابة"دستور موازٍ"، وصولاً إلى التلويح بالتظاهر والاعتصام لرفض الدستور، لتنقل بذلك معركة"الدستور"إلى الشارع، بعدما سعت كل الأطراف إلى حشد الأنصار تجاه تبني وجهة نظرها سواء بدعم الدستور أو رفضه في الاستفتاء المتوقع له نهاية العام. التأسيسية ومستقبل مرسي أواخر عام 2010، أصر الحزب الوطني الحاكم في تلك الفترة على المضي قدماً في انتخابات مجلس الشعب على رغم انسحاب غالبية القوى السياسية ومن بينها جماعة الإخوان المسلمين بسبب التزوير الفاضح، فلم يمض على انعقاد البرلمان أسابيع قليلة حتى اندلعت ثورة يناير التي أطاحت النظام وحزبه وبرلمانه. وبعد عامين يتكرر المشهد وإن بصورة مختلفة، فجماعة الإخوان تصر على الاستمرار في عملية كتابة الدستور، غير عابئة بانسحاب غالبية القوى السياسية والمجتمعية احتجاجاً على هيمنة الإسلاميين، فتصبح الجمعية التأسيسية هدفاً للمتظاهرين أواخر الأسبوع الماضي، في إطار إحياء ذكرى شهداء محمد محمود، مرددين هتافات ب"سقوط دستور الإخوان". تزامناً، كان نشطاء يجوبون ميدان التحرير مرددين هتافات ب"سقوط النظام"، والأمر نفسه تكرر الجمعة الماضي ضمن ما سمي"جمعة الغضب والإنذار". وكانت قوى سياسية اعتبرت أن الإعلان الدستوري الذي استصدره مرسي مساء الخميس، وحصّن بمقتضاه التأسيسية ضد الطعن القضائي،"يرسخ الديكتاتورية"، حتى بات السؤال: هل تعصف تأسيسية الدستور بمستقبل مرسي السياسي؟ في هذا الإطار، قال المرشح الرئاسي السابق الناشط اليساري خالد علي إن تحصين مرسي للتأسيسية"عبث دستوري أدخل الوطن في نفق مظلم"، محذراً من أن"مصر على مفترق طرق"، وشدد على أن"الثورة هي الطريق الوحيد لمواجهته". وعلى النهج نفسه سار رئيس حزب"المصريين الأحرار"الدكتور أحمد سعيد الذي انتقد تحصين الهيئة التأسيسية، معتبراً أن تلك الخطوة هي"تحدٍ واضح للقوى المدنية والإرادة الشعبية، وللسلطة القضائية". ولم تثنِ القرارات الرئاسية قوى ليبرالية ويسارية عن قرارها الانسحاب من تأسيسية الدستور، وقال زعيم حزب"غد الثورة"أيمن نور:"لا أستطيع أن أبقى في تأسيسية تتحصن بقرار إداري"، كما رفض مساندة نظام وصفه بأنه"يستعيد القيم السلبية التي ثُرت ضدها ودفعت عمري ثمناً لمواجهتها". فيما رأى مؤسس حركة شباب"6 أبريل"، عضو التأسيسية المستقيل أحمد ماهر أن أزمة الهيئة التأسيسية تعكس إعلاء مبدأ المغالبة على مبدأ التوافق. ورأى عضو مجلس الشعب السابق الخبير السياسي عمرو حمزاوي أن مؤسسة الرئاسة المصرية تمر بمنعطف كبير، لا سيما بعدما أظهرت فشلاً في التعامل مع الملفات والقضايا الداخلية، مشيراً إلى ما اعتبره حالة من"العجز السياسي واللافعل أمام العديد من الأزمات التي تلاحق البلاد وفي مقدمها أزمة الدستور. وقالت أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية الدكتورة منى مكرم عبيد إن الحل الوحيد للخروج من مأزق الهيئة التأسيسية هو"إعادة تشكيلها وفتح حوار وطني مع كل القوى السياسية". وذهب رئيس حزب التجمع رفعت السعيد، المعروف بمعارضته الشديدة للإخوان المسلمين، ملمحاً إلى إمكان التلاعب بالنتائج، وقال:"الجميع يعلمون نتيجة الاستفتاء على الدستور منذ الآن". الدستور لعبة انتخابية بدا واضحاً أن من العناصر التي تعرقل إنجاز دستور مصر بعد الثورة، سعي الأطراف المختلفة إلى استخدامه في"اللعبة الانتخابية"المقبلة بهدف كسب ود الناخبين. فالقوى السياسية ستكون مقبلة على انتخاب مجلس شعب بدل المجلس الذي حلّه قرار المحكمة الدستورية، بعد ثلاثة أشهر من الاستفتاء على الدستور. وفي حين يريد الإسلاميون أن يذهبوا إلى ناخبيهم ليقدموا لهم"انتصاراً للشريعة الإسلامية"من خلال الدستور، تسعى القوى الليبرالية واليسارية إلى إعلان"انتصارها لدعاة الدولة المدنية". لكن المناقشات حول الدستور الجديد تُظهر أيضاً أن القوى الليبرالية واليسارية ليست على"قلب واحد"، بل تعاني انقسامات. فهناك من هذه القوى من ينضم إلى الإسلاميين في بعض مواقفهم ويتمسك بالاستمرار داخل الجمعية التأسيسية، فيما تيار آخر يرفض تشكيلة الجمعية بمبرر"هيمنة الإسلاميين"عليها، أما التيار الإسلامي فيقف مدافعاً صلباً وفي شكل موحد عن الجمعية. ودعا وزير الدولة للشؤون القانونية والنيابية عضو الجمعية التأسيسية الدكتور محمد محسوب إلى"تقدم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية أو الفئوية". وأقر الناطق السابق باسم التأسيسية وحيد عبد المجيد بأن بعض الأطراف يستخدم الدستور في مصالح انتخابية، وقال ل"الحياة":"من الصعوبة أن تنجز دستوراً في ظل حال استقطاب، ومن الأخطر أن يستخدم انتخابياً". بات دستور مصر ما بعد الثورة مادة للسجال، بعد إقحام مجموعة من العبارات على مواده أثارت جدلاً واسعاً بين فئات المجتمع، لا سيما الأقباط الذين رأوا في بعض المواد ما يضر بمستقبل تعايشهم، والمرأة التي تقول إن هذا الدستور سينتقص من حقوقها وكرامتها... بداية السجال المجتمعي كانت مع ضغوط مارسها التيار السلفي داخل الهيئة التأسيسية وخارجها، من أجل ترسيخ تطبيق الشريعة على المجتمع، ومن أجل هذا الهدف كثف السلفيون ضغوطاً من أجل استبدال كلمة"مبادئ"في المادة الثانية من الدستور، ب"أحكام"، لكن ضغوطهم لم تفلح بعدما أصرت غالبية المجتمع وفي مقدمها الأزهر الشريف على عدم إجراء تعديلات على نص المادة الثانية:"مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". وقال مجلس شورى العلماء، وهو أعلى هيئة في التيار السلفي، في بيان له إن المجلس في صدد درس مواد مسودة الدستور،"ونحن نطالب بتفعيل هذه المواد على أرض الواقع، والشريعة الإسلامية هي اليسر كله، ولا عسر فيها". وكانت الكنائس الثلاث في مصر قررت الانسحاب من الهيئة التأسيسية مبررة قرارها بنص المادة 220 في الدستور والتي تفسر مبادئ الشريعة بأن تشمل:"أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة". وقال المستشار القانوني للكنيسة القبطية نجيب جبرائيل ل"الحياة"إن تلك المادة"تعني حرمان الأقباط من بناء الكنائس أو ترميمها، بل تبيح هدمها". يقول منتقدو هذه العبارة، وهم كثر، إنها تسمح بتكوين ميلشيات أو جماعة تمارس الوصاية على المجتمع. ودعا عمرو موسى، عضو الجمعية التأسيسية والمرشح الرئاسي السابق، إلى تعديلها وحذف كلمة"المجتمع"لتكون"تلتزم الدولة حماية الأنفس والأموال". غير أن هذا الطرح لم يرق للمستشار حسام الغرياني، رئيس الجمعية التأسيسية، إذ قال إن اللجان الشعبية هي التي حمت مصر في غياب الأمن، فيما اقترح الدكتور حسين حامد حسان، عضو الجمعية، إضافة عبارة"في حدود القانون"، حتى يكون القانون ضابطًا للجميع. وأكد الإعلامي حمدي قنديل وهو عضو في اللجنة الاستشارية التي شكلت لمراجعة مواد الدستور، أن صياغة الدستور بشكله الحالي"ركيكة ولا تليق بمكانة مصر ولا تعبر عن أهداف الثورة"، كما انتقد إسراع التأسيسية في تمرير الدستور للالتفاف على حكم مرتقب للمحكمة الدستورية العليا التي تفصل الشهر المقبل في مصير تشكيلة التأسيسية.