يواجه العالم العربي أخطاراً وتحديات. فالعولمة الاقتصادية تفوح منها رائحة المواجهة الاقتصادية الشاملة، وفي حال استمر العجز العربي المتفاقم جيلاً بعد جيل، فإن الدول العربية مهددة في وحدتها، وربما في وجودها. العالم العربي يواجه أيضاً المشروع الصهيوني في المنطقة الذي يعمل بكل جهد من أجل تفتيت الدول العربية، وحرمانها من التطور والرقي. العالم العربي في مواجهة مفتوحة كذلك مع المشروع الإيراني الذي يستفيد من انحسار المشروع العربي لتحقيق طموحات وغايات لا تتناسب أبداً مع مصالح الشعوب العربية. لكن التحدي الأبرز الآن هو قدرة الشعوب العربية على التخلص من أنظمتها الديكتاتورية الفاشلة. فثورة الربيع العربي تقدم للشعوب اليوم فرصة تاريخية لبلورة خطط استراتيجية تعيد العرب إلى المساهمة الإيجابية في الحضارة البشرية، بعدما غُيِّبوا عنها لعقود طويلة. إن الشعوب العربية أمام تحديات مصيرية، وعليها وحدها تقع مسؤولية الانتقال إلى مرحلة جديدة من مراحل التقدم والرقي. إن المجتمع الدولي الذي تغاضى عن مأساتي فلسطين والعراق، وعن تقسيم السودان ومحاولة تفتيت اليمن، ويساهم في شكل أو آخر بما يحصل في الصومال، ما زال يعطي الفرصة تلو الأخرى لنظام البطش والقتل والذبح، نظام بشار الأسد البائد بإذن الله. وعلى رغم كل ذلك، ما زال ثمّة من يقول أن هذا المجتمع الدولي سيتدخل إلى جانب الشعب السوري المظلوم، وأن العرب أصحاب حق وستُعيد إليهم الشرعية الدولية حقوقهم. حتى أن هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك حين يطالب اليوم المجتمع الدولي وهيئاته بالتدخل لمعاقبة المسؤولين عن الإساءات المتكررة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنما أصبحنا عاجزين عن فرض هيبتنا واحترامنا على العالم، إلا عبر ردود فعلٍ عنيفة أو تدخل الهيئات الدولية، وفي هذا- في رأيي- شيء من العجز. إنّ ما أنجزته الشعوب العربية عبر ثورة الربيع العربي، يعتبر وعن جدارة قفزة عملاقة في الاتجاه الصحيح، لمواجهة كل هذه التحديات. فهذه الثورة أضفت مفاهيم ونظريات تقدمية حول الديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة، وهي قادرة إذا توافرت الشروط الموضوعية، على إعادة تنظيم المجتمع العربي وفق أسس جديدة والإرتقاء بشعوبنا الى مصاف المجتمعات المتقدمة. ففعل الثورة والتغيير، والانتقال الى ما بعد الثورة والحفاظ على الإنجازات واعادة البناء نحو دولة المؤسسات الحديثة، تتطلب مجهوداً جماعياً كبيراً. إن المطلوب اليوم من رجال الفكر والسياسة العرب، وبالتعاون مع كل مكونات المجتمع المدني، التطلع فوراً إلى درس الحلول لمشكلات أساسية حالت وما زالت تحول دون تقدمنا وازدهارنا، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: - معالجة آثار السياسات الاقتصادية الفاشلة التي اتبعتها الأنظمة الديكتاتورية، والتي حوّلت معظم المجتمع العربي إلى مجتمع استهلاكي غير منتج. - التصدي للفشل في تحقيق التنمية الحقيقية التي حاولت هذه الأنظمة ومن خلال سياسات فاشلة، اتحافنا بها. فخلال ما يقارب نصف قرن، وضعت هذه الأنظمة استراتيجيات وبرامج إنمائية عشوائية، متسببةً في هدر مليارات الدولارات التي ضاعت وفُقِدت في أروقة الفساد. - معالجة مشكلة التباعد في المجالين العلمي والتكنولوجي بين العرب والغرب، والذي ما زال يتعاظم بوتيرة مخيفة. - التصدي لمشكلة الأمن الغذائي العربي، إذ ساهمت عوامل في بروز أزمة غذائية عربية صعبة العلاج، نتيجة السياسات الزراعية الخاطئة التي نفذتها بعض الدول العربية منذ استقلالها. لقد سعت هذه الدول على امتداد عقود، إلى محاكاة ما تمخضت عنه تجربة الغرب في مجالي النمو والتقدم الاقتصاديين، وفات هذه الدول أن ما شهده الغرب من تطور في مجال الخدمات والتكنولوجيا والاتصالات، سبقته ثورة صناعية من دونها ما كان لثورة الخدمات أن تتحقق. أنماط التنمية التي اتبعتها الأنظمة الديكتاتورية الفاشلة أغفلت منطق التكامل والترابط بين هذه القطاعات الانتاجية. كل هذه المشاكل المتراكمة يوماً بعد يوم، ستهدد ثورة الربيع العربي، وستعيد إنتاج الأزمات الاجتماعية التي ستتفاقم وتنفجر عاجلاً أم آجلاً إن لم نبادر إلى معالجة مسبباتها بروحٍ من المسؤولية العالية. فالثورة والثوار الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم في سبيل التخلص من الأنظمة الديكتاتورية القمعية، لن يتسامحوا بعد اليوم مع سياسات قد تفاقم مشكلات البطالة وتزيد أعداد الفقراء. لذلك، ندعو قادة الفكر الحر والأحزاب الديموقراطية والمنتديات الأدبية والفكرية والعلمية والنقابات والمؤسسات الملتزمة قضايا الناس ومصالحهم، إلى الانتفاض والاتحاد من أجل حماية مكتسبات الثورة من الهجمات المضادة والمعاكسة التي قد تستغل الأزمات الاجتماعية المتفاقمة لتحقيق غاياتها. إنها مسؤولية كبرى ملقاة على عاتقنا جميعاً في مرحلةٍ حساسةٍ، مرحلة لا تقل أهمية عن فعل الثورة، من خلال تفعيل التواصل بين جماهيرها. وذلك لن يتم إلا من خلال الإنخراط في عمل جدي يضمن الوصول الى مشروع حضاري جديد قائم على التعددية والحرية، حرية الاختيار والتعبير والتنوع والعلوم الحديثة، مشروع من شأنه توفير الرفاهية المادية لجميع المواطنين. وأخيراً، لن نسمي هذه الثورات التي تحدث اليوم ونطالب بحمايتها، ثورة الانتقال الى الجمهورية الثانية بل ثورة بناء الجمهورية الأولى في التاريخ والوجدان العربي الحديث . لن ندعوها إلا باسمها، ثورة الفعل الشعبي المباشر، فعل الجماهير العربية من أجل التغيير نحو الحرية والديموقراطية والتقدم وكرامة الإنسان. * الأمين العام ل"تيار المستقبل"في لبنان