بعد الترويج ل"الاسلام التركي"وانطلاق"الربيع العربي"من تونس في أواخر 2010 بدأ الحديث في الكواليس أولاً ثم في العلن عن"الربيع الاسلامي"، وبالتحديد عن مرحلة جديدة تتيح للاسلاميين من المغرب الى سورية أن يتحرروا من النظم غير الديموقراطية التي كانت تستمد"شرعيتها"من مكافحة الاسلام السياسي وأن يثبتوا قدرتهم على التعايش مع القيم الديموقراطية والتعامل مع الغرب بعقلية أخرى خارج تراث الحرب الباردة والحرب المقدسة التي أعلنتها"القاعدة". وفي هذا السياق يبدو أن الولاياتالمتحدة أخذت تدرك أن ما لديها من رصيد في البلقان يمكن أن يوظف أيضاً في خدمة التوجه الجديد، اذ إن تعظيم بعض النماذج في الجوار البلقاني الاسلام الألباني... الخ يمكن أن يفيد في التحولات الجارية في العالم العربي. وهكذا يلاحظ أولاً التركيز على ألبانيا التي أصبحت تذكر الآن باعتبارها"دولة اسلامية"مع أن المعارضة اليسارية والكنيسة لا تعتبرانها كذلك لأن المسلمين لم يعودوا يمثلون الغالبية تتميز بكونها تقوم على القيم الديموقراطية والعلمانية وتعمل على تطبيع العلاقات مع اسرائيل. وفي هذا السياق فقد برز الاهتمام كثيراً بزيارة رئيس الوزراء الالباني صالح بريشا اسرائيل في نهاية تشرين الثاني نوفمبر الماضي وترحيب تل أبيب بافتتاح سفارة اسرائيلية في تيرانا باعتبار ان ألبانيا"دولة اسلامية معتدلة". وفي هذا السياق أيضاً اندفع بريشا بعد عودته من اسرائيل ليتحدث عن دور ألباني في"دعم التحول الديموقراطي"في العالم العربي جريدة"شكولي"عدد 24/12/2011، مع أن المعارضة الالبانية تقدم صورة مغايرة لحكم بريشا وتحمّله المسؤولية عن حرمان الاتحاد الاوروبي لألبانيا من أي مكافأة في نهاية 2011 بالمقارنة مع الدول المجاورة الجبل الاسود. لكن الحدث الابرز كان في تغير الموقف الاميركي من"النموذج الكوسوفي"وتحوله الى الترويج لكوسوفو باعتبارها"دولة اسلامية". فمع الاعلان عن استقلال كوسوفو في 17 شباط فبراير 2008 بالاستناد الى خطة اهتيساري، كان من الملاحظ ان الدستور الذي كتب للدولة الجديدة في الخارج قدّمها باعتبارها دولة تقوم على الديموقراطية والمواطنة والعلمانية من دون أن تكون هناك أي إشارة الى الاسلام مع أنه دين الغالبية العظمى 90 في المئة. وفي السنوات الاولى كان هناك حرص أميركي على تعظيم كوسوفو كدولة تقوم على التعددية الاثنية والثقافية، حتى ان العلم المصطنع لها تضمن ست نجوم تشير الى المكونات الاثنية الستة الالبان والصرب والاتراك والغجر والبشناق من دون أي إشارة الى المرجعية الاسلامية التي تمثل 90 في المئة من السكان. إلا أن التطورات الجارية في العالم العربي جعلت الادارة الاميركية كما يبدو، تكتشف كوسوفو من جديد باعتبارها"دولة اسلامية". فقد قامت رئيسة كوسوفو عاطفة يحيى آغا بزيارة للولايات المتحدة في منتصف كانون الاول ديسمبر ونظّم لها السفير الاميركي في بريشتينا كريستوفر دل، الذي يوصف في بعض الصحف الغربية بأنه"الحاكم"، محاضرة في جامعة مونموث في ولاية نيوجرسي في 14/12/2011 لتتحدث عن بلادها. وكان من المفاجئ أن السفير دل قدّم الرئيسة يحيى آغا للطلاب باعتبارها تمثل المستقبل،"اذ يمكن دولة اسلامية أن تدلل على أن القيم الاسلامية والقيم الغربية يمكن أن يتعايشا مع بعضهما بعضاً". وقد نقلت الصحافة الكوسوفية ذلك باستغراب في الوقت الذي كانت فيه المعارضة الكوسوفية التي تمثل حزب"الرابطة الديموقراطية"الذي أسسه الرئيس الراحل ابراهيم روغوفا تشنّ هجوماً عنيفاً على تحول نظام الحكم الديموقراطي الى"نظام بوليسي"بعد تولي هاشم ثاتشي الذي يحظى بدعم واشنطن، رئاسة الحكومة. وكان ثاتشي قد ألف حكومته الائتلافية مطلع 2011 بالتحالف مع أحزاب صغيرة عدة، منها"حزب العدالة"ذو التوجه الاسلامي الذي وعده بإدخال مادة التربية الدينية الى المدارس الحكومية والسماح بالحجاب في تلك المدارس. ويبدو أن الدور الآن آت على البوسنة لإخراجها من الطريق المسدود الذي وصلت اليه في السنوات الاخيرة، وبخاصة في الشهور الاخيرة بعد أن غدت من دون حكومة مركزية منذ الانتخابات البرلمانية الاخيرة في تشرين الاول اكتوبر 2010. فقد جمعت واشنطن الاطراف المتصارعة التي وقعت اتفاق دايتون في 1995، ولكن بعد مضي حوالى عشرين سنة لم تنجح هذه الاتفاقية والضمانات الاميركية التي صاحبتها في عودة المهجرين المسلمين الى أراضيهم واستعادة البوسنة كدولة لكل المواطنين. فقد منح اتفاق دايتون 49 في المئة من البوسنة ل"جمهورية الصرب"التي نجحت في مقاومة كل الضغوط الاوروبية لتطبيق الاصلاحات لكي تحقق البوسنة الحد الادنى من التوافق مع المعايير الاوروبية التي تؤهلها للانضمام الى الاتحاد الاوروبي. وفي الوقت نفسه، فإن زعيم"جمهورية الصرب"ميلوراد دوديك الذي كان يذكر على الدوام ان البوسنة"كيان مصطنع"أصبح يصرح في الايام الاخيرة بأن البوسنة"في طريقها الى الانحلال"نتيجة الدور المتنامي للمشيخة الاسلامية التي يتزعمها المفتي مصطفى تسريتش جريدة"دنفني أفاز"عدد 24/12/2011. وفي الواقع فقد جاء تصعيد دوديك في الايام الاخيرة من خلال نقده الطموح السياسي للمفتي تسريتش الذي يعتبر من أوائل من دعوا الى"الاسلام الاوروبي"الذي يتعايش مع القيم الديموقراطية الغربية. ونظراً لأن دوديك قد نجح في الشهور الاخيرة في شبك علاقة خاصة مع اسرائيل وافتتح ل"جمهورية الصرب"مكتباً خاصاً لها في اسرائيل، وأصبح لذلك شخصية مقبولة في الولاياتالمتحدة في الشهور الاخيرة بعدما كان غير مرغوب خلال السنوات الماضية، فإن الفرصة الآن قد تكون مناسبة لكل الاطراف للخروج من الطريق المسدود الذي وصلت اليه البوسنة. فاستقلال"جمهورية الصرب"الذي كان برلمانها قد أقرّ قانوناً للاستفتاء عليه في 2010 إنما يعبر عن واقع الحال الموجود على الارض ويفتح الطريق أمام تسريتش وأنصاره ليقيموا"الدولة الاسلامية"في البوسنة التي ستجد من يرحب ويروج لها في هذه المرحلة الى جانب ألبانيا وكوسوفو باعتبارها تمثل"التعايش بين القيم الاسلامية والقيم الديموقراطية الغربية". وبعبارة أخرى، فإن ألبانيا وكوسوفو والبوسنة الجديدة إذا انبثقت قريباً هي مجرد عناوين للتحولات الجديدة الجارية في العالم العربي الاسلامي التي ستتضح مآلاتها قريباً.