في غضون الأشهر أو السنة المقبلة ستكون القوات الأميركية قد غادرت العراق، وهناك احتمال أن تؤدي الأزمة العميقة في سورية إلى سقوط النظام. سيكون هذا علامة على أكبر تحوُّل في القوة في الشرق الأوسط منذ غزو العراق. قد تخسر الولاياتالمتحدة المزيد من نفوذها في العراق لمصلحة إيران، وربما ينتهي الأمر بطهران إلى خسارة نفوذها في سورية وفقدان جسرها الاستراتيجي إلى"حزب الله"و"حماس"ودورها في القضية العربية - الإسرائيلية. لقد أطاحت حروب أميركا في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر بعدوّي إيران الرئيسين: حركة"طالبان"في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق. ولم يسهم سوء إدارة أميركا للوضع في مرحلة ما بعد الغزو في كلا البلدين، إلا في زيادة الأمر سوءاً. وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، بنت إيران شبكة نفوذ قوية في العراق، مع الجماعات الشيعية، وكذلك مع الجماعات السنِّية والكردية، سواء في الحكومة أو في المعارضة. كما بنت إيران علاقات مع جماعات في أفغانستان حيث لا تزال سياسة حلف شمال الأطلسي ناتو تتعثّر هناك. ومع انسحاب القوات الأميركية من العراق بحلول نهاية هذا العام، يمكن لإيران تعميق وترسيخ نفوذها هناك. من ناحية أخرى، وفيما يواجه النظام السوري أزمة وجودية، يمكن أن تخسر إيران أقدم حليف عربي لها. إذا سقط النظام في سورية، لن تخسر إيران سورية فحسب، ولكنها قد تخسر أيضاً جسرها الإستراتيجي إلى"حزب الله"ووصولها إلى"حماس"والفلسطينيين، وإلى الحدود الإسرائيلية. في هذه الأثناء، لا يزال الوضع في سورية يسير من سيّء إلى أسوأ. على الصعيد الداخلي، صمد النظام مدة ثمانية أشهر في وجه انتفاضة شعبية واسعة الانتشار- وهذا أكثر مما استطاع نظام مبارك أو بن علي - بيد أن النظام لا يزال في شبه حالة حرب مع مجموعات واسعة من أهله، والاقتصاد يمرّ في أزمة عميقة، ودمشق خسرت أصدقاء أساسيين لها في العالم العربي وفي تركيا. والأهم من كل ذلك هو أن جامعة الدول العربية تقود حملة ضغط سوف تزيد العقوبات في شكل كبير، ويمكن أن تؤدّي في الأشهر المقبلة إلى الضغط من أجل التدخل الدولي في سورية، قد يتخذ شكل فرض مناطق محميّة للثوار أو اللاجئين أو"الجيش السوري الحر"، أو منطقة حظر جوي فوق أجزاء من سورية، أو غير ذلك. إذا سقط النظام السوري فهذا من شأنه أن يشكّل أكبر نكسة إستراتيجية لإيران منذ الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. وفي الواقع، تركب إيران قوس صعود نفوذها الإقليمي منذ الإطاحة بحركة"طالبان"ونظام صدام، ومنذ ارتفاع أسعار النفط في عام 2004، والأداء القوي ل"حزب الله"، حليفها الرئيسي، في حربه مع إسرائيل في عام 2006. ويمكن لخسارة سورية أن تكون علامة بارزة على نهاية هذا القوس، وبداية فترة انحسار النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال إيران تخسر القوة الناعمة في شكل كبير أيضاً. ففي استطلاعات للرأي العام العربي أجريت في السنوات الماضية، سجّلت إيران ورئيسها أحمدي نجاد أكثر من 80 في المئة في شعبيتهما. لكن شعبية إيران تداعت في الأشهر الأخيرة وتدهورت إلى حوالي 15 في المئة. والسبب هو أن طهران أساءت إدارة مواقفها في الربيع العربي: فالثوار العرب قرأوا قمع إيران لمتظاهريها في عام 2009 كدليل على أنها نظام سلطوي مثل ديكتاتورياتهم العربية، كما أن دعم إيران للنظام في سورية، الذي قتل واعتقل الآلاف من مواطنيه، لطّخ صورة إيران أمام الرأي العام العربي. إذا خسرت إيران سورية، فإن هذا قد يعطيها حافزاً للتعويض عن هذه الخسارة من خلال محاولة بناء نفوذ أكبر في العراق. وفي الواقع، تخشى الجماعات الشيعية والسنّية في العراق على حد سواء انهيار نظام الأسد: فحكومة المالكي ذات الغلبة الشيعية تخشى أن يتم استبدال الحكومة ذات الغلبة العلوية في دمشق بأخرى معادية يقودها السنّة و"الإخوان المسلمون"الخ، والسنّة في العراق يخشون من أنه إذا سقط النظام الحالي في سورية لمصلحة نظام جديد بغلبة سنيّة، فإن إيران ستحاول تعويض هذه الخسارة عن طريق زيادة تهميش السنّة في العراق. ومع ذلك، فإن النفوذ الإيراني في عراق الغد ليس أمراً مفروغاً منه. فالوطنية العراقية والقومية العربية عميقتا الجذور في العراق، وقد تجد إيران صعوبة في السيطرة على العراق كما حصل مع الأميركيين. إن أحد أوجه الصراع المقبل في العراق، قد يكون بين جهود الدولة العراقية لبناء نفسها حتى بقيادة الشيعة العراقيين غير المناوئين لطهران وبين توجُّه إيران لإبقاء هذه الدولة ضعيفة ومشتتة ومخترقة. ثم لا ننسى أن العراقوإيران خاضا حرباً طويلة في ثمانينات القرن الماضي، وأن شعبية إيران حتى بين شيعة العراق متدنّية جداً، ناهيك عن التنافس التاريخي على القيادة الدينية بين النجف وقمّ. علاوة على ذلك، قد ترغب الحكومة في بغداد في الحفاظ على علاقات إستراتيجية قوية مع الولاياتالمتحدة، حتى بعد انسحاب القوات الأميركية، من أجل بناء قدراتها الذاتية وتجنّب أن تصبح دولة تابعة لإيران. وربما يخلق سقوط نظام الأسد أيضاً ديناميكية جديدة في الصراع العربي - الإسرائيلي. فمن دون غطاء سوري، سيكون"حزب الله"أكثر ضعفاً من الناحية الإستراتيجية. وهذا قد يشجع التفكير في الجانب الإسرائيلي على شنّ حرب أخرى على هذا الحزب في المستقبل القريب. وإذا ما أمكن لإسرائيل، في ظل وجود نظام جديد في دمشق، ضمان أن لا يتمكّن"حزب الله"من إعادة تسليح نفسه كما فعل بعد عام 2006، فقد تسوّل لها نفسها النظر في شنّ حرب أخرى. وطالما لم يتم حلّ التوتّر القائم بين إسرائيل وإيران في شأن البرنامج النووي الإيراني، فقد يتطور التوتّر بين إسرائيل و"حزب الله"، في ظل غياب الغطاء الاستراتيجي السوري، إلى حرب. أو في احتمال آخر، قد يخلق وجود نظام جديد في دمشق فرصة لتحقيق تقدّم في عملية السلام العربية -الإسرائيلية. ومن شأن أي نظام جديد في دمشق أن يرغب في استعادة الجولان المحتل، بل ربما قد يريد أيضاً إيجاد وسيلة لإضعاف"حزب الله"، وهو الحليف الإيراني القوي والمدجج بالسلاح في الفناء الخلفي لدمشق. وقد أشار المجلس الوطني السوري بالفعل إلى رغبته في استعادة الجولان عن طريق المفاوضات. وهذا ربما يخلق فرصة لإحياء محادثات السلام السورية - الإسرائيلية التي جُمّدت في عام 2008. وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنه سيكون لزاماً على لبنان أيضاً الانضمام إلى محادثات السلام، وقد يجد"حزب الله"نفسه مضطراً لأن يتكيف مع قطار السلام السوري- الإسرائيلي عبر تعاطٍ إيجابي مع معادلة السلاح في مقابل عودة مزارع شبعا وقرية الغجر وقطاعات محتلة أخرى من الأرض اللبنانية. ويمكن لتحقيق انفراج في محادثات السلام السورية - الإسرائيلية أن يخلق ديناميكية جديدة وإمكانات جديدة لتحقيق انفراج نهائي في محادثات السلام الإسرائيلية - الفلسطينية. وقد تصل المنطقة في النهاية إلى اتفاق عام للسلام بين العرب وإسرائيل يشمل مبادرة السلام العربية لعام 2002. في كل الأحوال، سيشهد المشرق العربي تحوّلاً في القوة في الأشهر - أو على الأقل السنة المقبلة - سوف يغيّر نمط العلاقات التي سادت في السنوات السابقة. إيران قد تخسر نفوذها في سورية وتكسب نفوذاً نسبياً في العراق، في حين قد تبتعد سورية في نهاية المطاف عن إيران وتوجّه سياستها الخارجية الإقليمية على نحو يجعلها أقرب إلى تركيا ومجلس التعاون الخليجي. قد يشكل ذلك حافزاً لكل من الولاياتالمتحدةوإيران للحدّ من تدخلهما في العالم العربي، والسماح لكل من العراق وسورية الجديدة برسم مستقبلهما الديموقراطي بقرارهما الذاتي المستقل. * مدير مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.