لا تحمل كل الوثائق المصنفة سرية أخباراً، وليس ما تحمله بالضرورة مهماً أو مثيراً للاهتمام. والدليل على ذلك تسريب موقع"ويكيليكس"92 ألف وثيقة سرية عن الحرب في أفغانستان الى بعض الصحف الأوروبية. وخلاصات هذه الوثائق هي أن عدداً من المدنيين الأفغان يسقط خطأ أحياناً، وأن عدداً كبيراً من المسؤولين الأفغان والقياديين الأمنيين فاسد ويفتقر الى الكفاءة، وأن علاقات شائنة تربط الاستخبارات الباكستانية والجيش الباكستاني بطالبان. وإذا أدهشتك الخلاصات هذه، فأهلاً بك في عالم مطالعة الصحف. فاليوم، على ما يبدو، هو يومك الاول في عالم المطالعة. ولاحظ جوليان أسانج، مؤسس"ويكيليكس"، أن الوثائق المسربة تشبه أوراق البنتاغون التي سربها دانيال ايلسبرغ في 1972 عن تاريخ حرب فيتنام السريّ. وما عُرف ب"أوراق البنتاغون"هو دراسة أجريت بناء على طلب وزير الدفاع السابق، روبرت ماكنمارا، وهو عمل تأريخي ضخم مرفق بوثائق كانت يومها سرية. وأماطت الوثائق اللثام عن أن حرب فيتنام كانت، الى حد بعيد، حرباً أهلية لم تكن لتندلع لو التزمت الولاياتالمتحدة اتفاق جنيف، في 1954، الذي دعا الى انتخابات محلية ترسي الوحدة بين شمال وجنوب فيتنام، وأن مسؤولين أميركيين بارزين أدركوا، مطلع 1965، أن النصر لن يكون من نصيبهم في الحرب وواصلوا الكلام الواعد بنصر مرتقب. وأظهرت أوراق البنتاغون أن الحرب كانت، من بدئها الى ختامها، كذبة. وعلى خلاف الأوراق هذه، لم تحمل مادة"ويكيليكس"الخام و"النيئة"، المنشورة في ال"تايمز"وال"غارديان"، جديداً يخالف ما يعلنه المسؤولون الاميركيون ومسؤولو ال"ناتو". فهؤلاء يتناولون مشكلات منها سقوط ضحايا مدنيين، وتواطؤ باكستاني مع طالبان، والفساد. والمشكلات هذه حملت الرئيس اوباما على انتهاج استراتيجية جديدة بأفغانستان، في كانون الأول ديسمبر 2009. وعلى رغم إلمامها بتفاصيل الحرب في أفغانستان، لم تمتنع الصحف التي نشرت الوثائق المسربة عن المبالغة في الترويج لها. فقدمت ال"غارديان"الوثائق بمقدمة مثيرة، تسلب الألباب، وكتبت:"ما ننشره اليوم هو تاريخ موثق تفصيلي لنزاع دام أكثر من حرب فيتنام وهو أطول من الحربين العالميتين. والتفاصيل هذه تبدد الوهم القائل بأن التزام خطة الحرب المُحكمة ممكن، وتدحض الزعم أن تقييد إراقة الدماء في الحروب مقبول". و"الوهم"هذا، إذا صدقه أحدهم، سبق أن تبدد في جولات التمرد الأولى بالعراق، في ختام خريف 2003. ولم يعلن مسؤول أميركي، منذ دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع السابق، مثل هذه المزاعم. وأجمع المسؤولون الاميركيون على أن الحرب، وخصوصاً الحرب بأفغانستان، فوضوية ومميتة، وأن العدو يتكيف مع الظروف الطارئة، وأن تغيير خططنا واجب. ويبدو أن محرري ال"غارديان"لم يقرأوا رسائل مراسلي الصحيفة بأفغانستان الدقيقة والممتازة. وصدّرت ال"تايمز"الوثائق المنشورة بعنوان تافه وممل،"النزاع الافغاني: أرشيف سري". ولكن افتتاحية الصحيفة زعمت أن الوثائق تعرض وصفاً ميدانياً"ارض الواقع"للحرب بأفغانستان... والصورة هذه قاتمة أكثر من تلك التي يقدمها المسؤولون. والحق أن التقرير الصادر في نيسان ابريل الماضي عن وزارة الدفاع الاميركية من 150 صفحة يرسم، على غرار تقارير مراسلي ال"تايمز"، صورة أقل وردية من تلك الماثلة في الوثائق المسربة. وأغفل محررو الصحيفة تفصيلاً مهماً في الوثائق هذه هو استخدام طالبان صاروخاً يتعقب الحرارة في تدمير مروحية نقل أميركية، في أيار مايو 2007. ولا يستهان بأهمية الحادثة هذه. فقبل 30 سنةً، زودت وكالة"سي آي أي"المجاهدين بصواريخ"ستينجر"دمرت مئات المروحيات السوفياتية. والصواريخ هذه أسهمت إسهاماً بارزاً في هزيمة السوفيات. ولم تجد ال"تايمز"في الوثائق ما تبرزه الا معلومات عن فساد مسؤولين أقيلوا واستبدلوا، ونشرت معلومات عن حادثة فقدان طائرة من غير طيار الرابط بالأقمار الاصطناعية واضطرار سلاح الجو الى إرسال مقاتلة"أف ? 15"لتدميرها. ولكن مثل هذه المعلومات غير مفيد إذا لم تلاحق تفاصيلها، وما لم يرصد تواترها، وتربط بحلقة من الحوادث ومترتباتها. وأدرك القدماء ان الصحافة هي مسودة أولية لأعمال التأريخ. ووثائق"ويكيليكس"المسربة تصلح ملاحظات أولية غير كاملة لمتابعة قصة صحافية. * معلق، صاحب"1959: عام تغير فيه وجه العالم"، عن موقع"سلايت"الاميركي، 26 /7/ 2010، اعداد م. ن.