استضاف المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم سفير الثقافة اليونانية، الكاتب جورج ستاسيناكيس، وهو رئيس اللجنة التنسيقية للجمعية العالمية لأصدقاء نيكوس كازانتزاكيس، فقدم محاضرة مطولة، مع ترجمة من إيمان خبير، عن صاحب"زوربا اليوناني"وعلاقته بفرنسا والعالم العربي، كاشفاً الكثير من الأسرار عن سيرته، الموزعة في حوارات إذاعية ورسائل ومذكرات وكتابات صحافية. وبدأ ستاسيناكيس حديثه تحت عنوان طويل:"مؤلفات وفكر نيكوس كازانتزاكيس وعلاقاته مع فرنسا والعالم العربي الإسلامي"منطلقاً من عبارة الشاعر الفرنسي آلان بوسكيه، عقب رحيل كازانتزاكيس، في السابع والعشرين من تشرين الأول اكتوبر 1957 في فريبورغ ألمانيا، اذ قال:"هو من أعظم كما من أنبل الشخصيات الأدبية التي خلدت في ذاكرة أهل هذا الزمان ... دائماً ما كان اسم كازانتزاكيس يتردد حين يرد ذكر جائزة نوبل ولكونه لم ينلها، فهو دليل في يومنا هذا على عظمته المستمرة إن كازانتزاكيس يُعد، سوياً مع كافكا وبروست وذلك المجهول الكبير هيرمان بروخ، من أعظم كتّاب هذا العصر...". وأضاف ستاسيناكيس الى عبارة بوسكيه قول البير كامو لزوجة كازنتزاكيس في 16 آذار مارس 1959:"أنا لا أنسى البتة أنني في اليوم الذي تسلمت تقديراً كان كازانتزاكيس يستحقه مئة مرة أكثر مني، تلقيت منه أكثر البرقيات كرماً ونبلاً...". بدأ كازانتزاكيس بالشعر، ولم تُعرف رواياته إلا في سنواته الأخيرة، يقول ستاسيناكيس، لافتاً إلى انه وقبل شهور قليلة من موته كتب في دفتر"الآراء"في مكتبة مدينة أنتيب الفرنسية التي عاش فيها من 1948 إلى 1957:"الشعر هو الملح الذي يمنع الحياة من التعفن". وقبل لحظات من وفاته قال لأطبائه:"اعلموا أن الشعراء لا يموتون أبداً ... غالباً أبداً". "الأوديسا"هي أشهر نصوص كازانتزاكيس الشعرية ويصفها ستاسيناكيس ب"العمل الاسطوري. وهي قصيدة محورية وأساسية يصف فيها مغامرة أوليس أي مغامرته هو شخصياً ومغامرة الرجل العصري، عبر رحلة تبدأ من إيثاكا في القطب الجنوبي مروراً بأسبرطة وكريت ومصر وأفريقيا الوسطى...". اما النص الشعري الثاني فهو"تيرتسيني"وهو غير معروف ومؤلف من 21 أغنية، والنص الثالث مجهول بعنوان"سونتيا"! وفي المسرح بدا كازانتزاكيس، علي صعيد المضمون، دينياً وتاريخياً، فلسفياً وسياسياً، وقد كتب عشرين مسرحية ولم يبدع أكثر من أحدى عشرة رواية أبرزها"حياة ومغامرات أليكسيس زوربا"،"المسيح مصلوباً"،"القبطان ميخاليس"،"تقرير إلى غريكو" ! وتنقل كازانتزاكيس في انحاء مختلفة من العالم"فالحياة المثلى بالنسبة له، كما كتب مرة لزوجته الثانية إليني هي:"ثمانية أشهر من الترحال وأربعة من العزلة"، وفي رحلاته التي شملت أفريقيا وآسيا وأوروبا كتب عشرات التقارير والرسائل وقد جمعها في خمسة مجلدات. ويقول ستاسيناكيس أيضاً ان كازنتزاكي كتب مئات المقالات والدراسات عن شخصيات تاريخية وحكماء وأدباء من العالم أجمع، ما يعبر عن سعة اطلاعه ومعرفته! ثم تحدث ستاسيناكيس عن فكر كازنتزاكي، ملخصاً اياه في: البحث عن الجوهر والحرية، والإفتتان بالطبيعة، أولوية الروح وسيادتها. أما الحرية فهي عنده، كما يرى ستاسيناكيس، في معنى عبارة الفيلسوف المسلم ابن رشد: إن الفضيلة المبنية على الأمل في الثواب والخوف من العقاب لا ترقى الى مستوى الإنسان الذي خلقه الله، إنها فانية". وليس عبثاً ان على قبر كازانتزاكيس كتبت العبارة الآتية:"أنا لا أخاف شيئاً ولا آمل شيئاً ... إنني حر". تأثّر نيكوس كازانتزاكيس بالتيارات السياسية في عصره لكنه لم يلتزم حزباً معيناً. هوية عربية وبعد حديث مستفيض عن علاقة كازانتزاكيس بفرنسا التي كتب بلغتها روايتين، تطرق إلى علاقته بالعالم العربي. وفي هذا الصدد أشار اولاً إلى ان الكاتب اليوناني كان يفضل ان تكون له جذور عربية أو افريقية وقد كتب معبراً عن ذلك، مبيناً ان عائلة والده:"تتحدر كما يقول من قرية تبعد ساعتين من ميغالو كاسترو تدعى البرابرة. وعندما استعاد امبراطور بيزنطة نيسيفور فوكاس كريت من العرب في القرن العاشر حصر كل العرب الذين نجوا من المجزرة في بعض القرى وسميت هذه القرى باسم البرابرة. ومن إحدى هذه القرى كانت تأتي جذور أجدادي لآبائي...". ويضيف واصفاً سمات اجداده العرب ب"الكبرياء، العناد، قلة الكلام، عدم المرونة. كانوا يراكمون فيهم الغضب والحب والصمت وفجأة تحرر المارد من دواخلهم وانفجروا وتخلصوا من قيودهم. لم يكن الخير الأسمى بالنسبة لهم هو الحياة بل العاطفة. هم ليسوا جيدين وليسوا متساهلين في أداء واجباتهم... حضورهم طاغٍ ويطلبون الكثير ... ليس من الآخرين بل من أنفسهم". ويقتطع ستاسيناكيس من مقالة للكاتب عن رحلة له إلى جبل سيناء ليؤكد شغفه بالعروبة، فهو كتب:"كنت أسعد بالتفكير بأنني لست يونانياً خالصاً وأنني أنحدر قليلاً من البدو. قد يكون أحد الأجداد الكبار تبع الهلال وراية الرسول الخضراء واستقر في إحدى الأراضي العربية في أسبانيا بحثاً عن الجزيرة التي يصب فيها العسل واللبن: كريت!". لم يزر كازانتزاكيس العالم العربي إلا مرتين، يقول المحاضر ويوضح:"الأولى كانت في نيسان أبريل وأيار مايو 1926 إلى فلسطين ولبنان، والرحلة الثانية من كانون الأول ديسمبر 1926 إلى شباط فبراير 1927 بحيث زار مصر والسودان وقد حالت أسباب مادية دون ذهابه الى المغرب لتصوير فيلم حول النبي عن الإسلام". وقد انعكس حبه للثقافة العربية في العديد من أعماله، فبعض مقاطع نصه الشعري الاطول"الاوديسا"مستوحاة من مصر، وفي نصه"تيرستين"اهداء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي العديد من اعماله الاخرى ذكر لكتاب ومفكرين عرب. وعبر كازانتزاكيس دائماً عن اعجابه بجمال الطبيعة في البلاد العربية، بناسها مساجدها، كما يقول ستاسيناكيس، وكتب في رسالة منه إلى زوجته ذات مرة:"إن روحي مثل روح المسلم عندما يصلي... عندها تتجه روحه نحو الشرق. آه ... لقد وجدت نفسي... أنا ذو الاصول العربية على جزيرة كريت الأفريقية. حمداً للرب رحلتنا إلى الشرق أثمرت، ودمنا لا يزال يعيش ويحكم...". نشر في العدد: 17107 ت.م: 04-02-2010 ص: 27 ط: الرياض