الروائي اليوناني فيليبوس فيليبو، مؤلف "السياسي نيكوس كافادياس" و "الأيام الأخيرة في حياة الشاعر كوستاس كفافيس"، أصدر أخيراً رواية جديدة عنوانها"وفاة زوربا اليوناني"، تؤسس بتفاصيلها رواية مضادة ل"زوربا اليوناني"لنيكوس كازانتزاكيس، التي أخرجها للسينما ميخائيل كاكويانيس، وقام بدور شخصية زوربا انطوني كوين. يضعنا فيليبو في روايته الجديدة أمام شخصية مختلفة ل زوربا هي أقرب إلى يورغي الإنسان العادي منها إلى أليكسيس الأسطوري. فزوربا هنا مجرد رجل بسيط يكاد لا يمت بصلة الى ذلك القروي الحكيم، الهادئ والرابط الجأش وزير النساء، كما كتبه كازانتزاكيس في"زوربا اليوناني". وبحسب فيليبو لم يلتق"زوربا"كازنتزاكيس في جزيرة كريت، وهو لم يشارك في أي حرب، ولم يكن على الإطلاق زير نساء كما يطل علينا في الرواية الشهيرة والفيلم الأشهر، بل هو تزوج من امرأة واحدة لا غير"وكان بالأحرى رب أسرة محافظاً، سهل الانقياد، وعلى قدر متواضع من الثقافة، وكان على الأرجح من مؤيدي الزعيم اليوناني أليفثيريوس فينيزيلوس، واقتصرت حياته على الكدح من أجل البقاء ولقمة العيش. أي أن الصورة التي يرسمها فيليبو لزوربا تختلف كلياً عن الصورة التي حاكها كازانتزاكيس، لإنسان ذي قدرة فائقة على معايشة الأشياء بأسرها وكأنها تحدث للمرة الأولى، وعلى إسباغ العذرية على العناصر الفانية والسرمدية على السواء: الهواء، والنار، والمرأة، والخبز". وبالاستناد الى فيليبو فإن كازنتزاكيس اختلق تفاصيل حياة زوربا، بداية من زيارة بطل القصة للكاتب كازانتزاكيس في بيته في جزيرة أيينا اليونانية في صيف 1941، وحتى آخر أحداث الرواية، وهو يؤكد في هذا الصدد"أن الكثير من الوقائع والأحداث التي أذكرها في الكتاب حدثت في مكان آخر وزمن آخر، ولكنها بالطبع حدثت فعلاً". واعتمد فيليبو على كمية هائلة من المعلومات الوثائقية، غيبت عن العمل الابداعي دور الخيال في نحت شخصية روائية قائمة بذاتها"بحيث طغى السرد التقريري لأحداث الرواية على جماليات الحبكة الخيالية. تضعنا رواية"وفاة زوربا اليوناني"أمام زوربا قبل وفاته بوقت قليل، وهو بين مجموعة من المفكرين والأدباء والشعراء وأهل الفن، منهم فارناليس وكارافيداس وسيكاليانوس وغالاتيا كازانتزاكيس وماريا بونابارت وميلينا ميركوريس وباندليس بريفيلاكيس وثناسيس كلارا وأريس فيليخيوتيس. كان الوقت صيفاً وكانت اليونان ترزح تحت الاحتلال النازي، بينما يعصف الخوف بالناس. لكن هذه الجماعة من المفكرين، سواء من كانوا مجرد عابرين في الجزيرة قاصدين جهات أخرى، أو أولئك الذين يصطافون فيها، كانت قادرة على القفز فوق هذا المناخ العسير لخلق مساحة من الحرية الوجودية، تترك العنان للشغب كما لو كانوا وحدهم على الأرض: البعض منهم ينشد الشعر، والبعض الآخر يتنزه على شاطئ الجزيرة... وهذا الذي يهرج أو ذاك الذي يغازل الحسناوات...، بينما كان كازانتزاكيس ينجز روايته"زوربا"وكانت زوجته إليني برفقته تكتب على الآلة الكاتبة بلا كلل أو ملل. ويفترض، بحسب الرواية، أن"زوربا"سيذهب إلى جزيرة"أيينا"ليقنع صديقه الكاتب كازانتزاكيس بأن يساعده في إعادة فتح المنجم واستغلاله في"ماني"مرة أخرى. ولكن، منذ اللحظة التي سيطلع فيها على خطط صديقه الكاتب بشأن الكتابة عنه، صار شغله الشاغل هو صيرورة هذه الرواية، وفق ما في ذلك من إطراء كبير لشخصه البسيط، وكثير من الناس سيسعدون بأن يصيروا أبطال رواية ما، سيقرأ الآخرون سيرتهم ويطلعون على أعمالهم ومآثرهم. مع ذلك نجد أن زوربا كان قد استشعر القلق بشأن عدم تأكده من نوعية تأثير هذا الأمر في عائلته، فالسيرة الذاتية هي شيء خاصّ قد يتوجب أن تبقى طيّ الكتمان. اعتمد فيليبو في"وفاة زوربا اليوناني"على وثائق تعود إلى حقبة ما بعد عام 1941، كذلك على ردود فعل أبناء"زوربا"الذين اعترضوا على تقديم كازانتزاكيس لوالدهم كصعلوك متشرد، خائن لزوجته ونصف مجنون لا يتحدث إلا بفاحش القول. ووظف للحبكة صوراً ثابتة للشخصيات التي لعبت دوراً ثانوياً في الرواية بحسب تغيّرها وتشكلها بمرور الزمن، السيدة ميلينا ميركوري وزيرة الحضارة في الثمانينات، على سبيل المثال، ظهرت منذ ذلك الوقت وهي مصممة على استعادة الآثار التي هُرّبت إلى خارج اليونان. الشاعر فارنليس يحاول أن ينافس الشاعر الكبير إليتيس الحاصل على جائزة نوبل في التودّد والتغزل بالجنس الآخر. أما إليني زوجة مؤلف"زوربا اليوناني"التي لم تظهر كثيراً، فنجدها تعرض تعليقاتها وكتاباتها لمساندة قضية المرأة. ينسج فيليبو بين هذه الشخصيات كمجموعة متصلة، يغلب على أفرادها الغرور، ويسود الشعور عند هؤلاء بأنهم أعلى مكانة من بقية البشر. أما بالنسبة الى زوربا فإنه يبقيه على تلقائيته، إنساناً يسكنه نهم حقيقي للحياة، يعيش كما يمليه عليه مزاجه، هازلاً ومرحاً، تلمع عيناه لمجرد رؤية امرأة جميلة... وهو يظهر في شخصيته المتفجرة التي يسطرها قلم كازانتزاكيس، كتوازن بإطلاق بين الشجاعة والحكمة والرقة والإنسانية. ويبقى زوربا اليوناني أغرب الشخصيات التي تعرف اليها كازانتزاكيس في أحد أيام عام 1917 في منجم الغرانيت في منطقة ماني جنوب شبه جزيرة"البولوبونيز"قرب خليج صغير جميل، حيث عاش الكاتب فترة مع عامل المناجم زوربا الذي سيلعب دوراً مهماً في حياة الروائي. "ينحدر زوربا من قرية على جانب جبل الأولمب، تعرّف اليه كازانتزاكيس عندما تشاركا في مشروع منجم الغرانيت، لكن المشروع ذهب هباء، وتبدد في عشق زوربا للحياة ورقصته الشهيرة على الشاطئ، وعزفه على آلة السانتور، وهي آلة موسيقية تشبه آلة"القانون"العربية. وبعد أن افترق كازانتزاكيس وزوربا، توجه الأخير إلى صربيا، باحثاً هذه المرة عن المنغنيز، وجمع حوله ممولين لمشروعه، وشغّل عمالاً وفتح أنفاقاً تحت الأرض وتزوج أرملة لأنه لم يستطع تحمل العيش وحيداً، وعلى رغم غربته وبعده عن الوطن، إلا أنه لم ينس صديقه وكان يراسله بإستمرار حتى وفاته". وتظل علاقة كازانتزاكيس ببطل روايته"زوربا اليوناني"عامل المناجم البسيط، من أكثر علاقات كبار الكتاب بشخصياتهم غموضاً وجمالاً وخصباً والتباساً. لم يكن زوربا متعلماً، إنما كان حكيماً، تلك الحكمة التي تنساب كالنهر الرقراق في ليلة قمرية دافئة، وكان شخصاً مفعماً بحيوية وقوة وحس متدفق، وشهماً، وكان عملياً، أمام من كان يسميه زوربا"فأر الكتب". كان زوربا من بين الذين اثروا في حياة كازانتزاكيس، وأشار إليهم الكاتب نفسه وهم: هوميروس، وبوذا، ونيتشة، وبيرغسون. وأشار إلى تأثير كل من هذه الشخصيات فيه في جانب معين، ويقول عن زوربا:"علمني أن أحب الحياة، وألاّ أخاف من الموت". وقال لو أن سؤال العمر كان مطروحاً أمامه، حول اختيار دليل روحي، لاختار زوربا من دون تردد. يكتب زوربا من صربيا في 17 تموز يوليو 1922: "تلقيت رسالتك الأخيرة ووجدت أنك تفرط في مدحي، لا تسخر من فكرة امتلاكنا قيمة أخرى، وبحثنا عن شيء أفضل من الآخرين؟ من جهتي كل الذين عرفتهم يقتصرون على المال وحده. يتزوجون ويعيشون رتابة الحياة الزوجية. وأنا لا أصنفك ضمن هذا النوع. أنا فقط لم أتزوج إلا من باب المزاح. السيدة زوجتي توفيت، وحسناً فعلت. وما زلت أضحك من أصدقائي الذين أشفقوا على مصيري آنذاك. أنا الآن لا أخاف الموت لأنه لا يساوي شيئاً. وكما أنني لا أساوي شيئاً بدوري، فأنا لا أخشى أخطر عناصر الطبيعة، مهما فعلت، وحتى إذ جاء مذنب ليضربنا ويحولنا إلى سلاطة طماطم، فأنا أضحك. سأسألك حول نقطة أخشاها وتتملك أحاسيسي بقوة. الشيخوخة تخيفني، ولا أجد شيئاً لطرد هذا الخوف. كل هذا أجده في منتهى الضيق. أنا الذي أذهب إلى كل مكان من دون خوف، إلى غابات جبل آتوس، وروسيا، كما كتبت تمدحني. أنا اصير حارساً لأحفاد متوحشين؟ أكتب إليك هذه الحماقات، محاولاً التحرر، ولهذا السبب أجوب الجبال. أفضل أي نوع آخر من الموت، كأن تلتهمني الذئاب والدببة، ومهما كان نوع الحيوان القادم أقول له على الرحب والسعة! إذا لم ننجح في إيجاد مأوانا المنتظر حيث نعد حساءنا من بطاطا وخضار وما تصادفه أيدينا، فالشقاء حليفنا". الوفي لكم/ ج . زوربا.