جمع السياسي وعالم الاقتصاد العراقي مهدي الحافظ كتابات له ومقابلات معه في كتاب عنوانه"الآن والغد - في الاقتصاد والسياسة"سيصدر آخر هذا الشهر في منشورات الجمل بيروت - بغداد. وتأتي مادة الكتاب من خلال الوضع المتوتر للعراق: الاحتلال والتخندق الطائفي وتفكك الدولة وخراب الاقتصاد، لتقدم صورة عن الوضع وترصد نوافذ للأمل من خلال حيوية العراقيين وانفضاح أساليب العنف وعبثيتها. هنا مقدمة كتبها المؤلف لكتابه: كثيراً ما كنت أواجه بسؤال محرج خلال السنوات الأخيرة: لماذا لا تجمع كتاباتك التي تضم أفكارك وطروحاتك بشأن الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد وترشد الناس الى ما تعتقد أنه الطريق الصائب؟ هذا السؤال وإن احتوى على بعض اللوم، يعكس ما احتاجه الناس طوال الوقت من عون في فهم لما يحدث من حولهم، مع رغبة متنامية بالوضوح والتفاعل الصحيح في ظروف العراق الكثيرة التشويش والمليئة بالضغوط والتدخلات. لا أخشى القول إنني كنت متردداً أول الأمر بسبب ضرب من الحس بالأولويات الناتج عن ضغوط العمل وتنوعه، فضلاً عن الأدوار المختلفة التي كنت أؤديها بوصفي وزيراً، وعضواً في المجلس النيابي، وعضواً في قائمة انتخابية بالمجلس، ورئيساً ل"معهد التقدم للسياسات الإنمائية"التي تصدر عنه مجلة"حوار"ولموقع إلكتروني معني بالشؤون الاقتصادية والسياسية العراقية. أعترف هنا كذلك بأن الحالة العراقية الصاخبة والمثيرة للحزن مارست دوراً مثبطاً في البداية، فالمرء لا يني يناضل فيها من أجل تثبيت البديهيات، وتأكيدها مراراً وتكراراً، لأن الخلل عصف بكل الأبنية الاجتماعية والسياسية، والخراب الاقتصادي شامل، ومنظومة القيم الأخلاقية بدت شيئاً تذكارياً، والقوى السياسية الجديدة راحت تتعلم تواً لغة وعادات جديدة، حتى اللغة الاعتيادية التي نستخدمها للتعبير عن أنفسنا باتت بحاجة الى التدقيق وإعادة الترتيب. على الرغم من ذلك ومن لحظات كانت تدعو لليأس حقاً، إلا أنني اعتدت في حياتي السياسية والمهنية أن لا أستسلم للإحباط، كما ان تطورات سياسية نتجت عن إصرار العراقيين على التحول الديموقراطي فتحت الطريق الى الأمل. إن عملي الاقتصادي والسياسي كله كان يتركز على خلق قاعدة للأمل والنضال ضد الفوضى، والوقوف ضد الفكر الأحادي. فلا مناص في الحقيقة من التفكير الإيجابي، ولا مفر من الإسهام الفاعل في حركة انطلقت ولا يمكن الرجوع بها وبافتراضاتها الأصلية. من جهة أخرى علينا أن نقر بأن بلادنا الحزينة اجتازت عدداً من العتبات المهمة ودخلت الى أفق التحولات التي ستقودها الى حياة جديدة. لقد بات الناس يفكرون بطريقة جديدة تتجاوز متاعب الماضي وتبحثُ في وسائل النهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مع الحرص على وحدة العراق بجميع طوائفه وإثنياته في إطار دولة حرة ومستقلة وديموقراطية. وبعد تجارب مرة من الاحتلال والتخندق الطائفي والعنف والتدخلات الإقليمية، تعلم العراقيون درس الشعوب الحية، فبدلاً من الاستسلام للخراب والعنف والطائفية، قاموا بتحول ذهني مناسب باتوا بوساطته قريبين من التفكير الجديد، على الرغم من كل المصاعب والتحديات. ما أدعوه بالتفكير الجديد ليس بدعة ذهنية او محاولة الهرب الى أمام، بل هو عتبة لفهم التطورات الجديدة في العالم والتفاعل معها. انه جزء مميز من برامج ورؤى الكثير من قادة الفكر والسياسة في العالم المتقدم بمن في ذلك صناع القرار والسياسة. لقد كنا بعيدين سابقاً عن هذا التفكير، أما الآن فنحن في قلب تجربة من التحولات التي تقربنا منه على نحو أكيد. ففي منطقة لا تتحدث بالتعددية وحقوق الإنسان واحترام فكر الآخر، منطقة تخشى الديموقراطية وتتفنن في محاربتها والابتعاد عنها، باتت هذه الأفكار سائدة في العراق ويجرى الحديث عنها من دون خوف، بل هي معززة بتجارب انتخابات ديموقراطية مثيرة، بدا آخرها محملاً بوعود عدة. الكتاب خرج بالكامل من الشروط العراقية بكل ملابساتها، بكل ما كان قريباً من اليأس وقريباً من الأمل، وهو يحمل، بما عكسه من نشاط شخصي وموضوعي، تلك اللحظات التي عاشها العراق بتواريخها الاعتيادية، حيث الأفكار تشترك مع الهواجس والقلق الإنساني، وحيث الملاحظات البسيطة قد تعادل حياة كاملة. بيد أن ما هو مهم كذلك أن الكتاب يربط الخبرة الشخصية بحركة المجتمع، ويقترب بخطوات حثيثة من التفكير الجديد الذي بات مصدراً من مصادر التجربة العراقية، على مستوى الواقع أو مستوى الطموح. وفي الكتاب تتكرر بما يشبه اللازمة أهمية بناء الدولة العراقية الديموقراطية بمفهومها العلمي الحديث بمعزل عن مصالح وإرادة التيارات والأحزاب السياسية والقوى المسلحة غير النظامية. هذه اللازمة المتكررة والمؤكدة جاءت ولا شك من التجربة العراقية المرة. وأعتقد من دون شك أو مراوغة أن بناء هذه الدولة هو المهمة الوطنية الأولى، كما هو المهمة العلمية الأولى. فدولة كهذه بمؤسسات فاعلة وشرعية وفق القواعد المعتمدة في العالم المتحضر، بقدر ما تضمن خلق قاعدة لتطور الحياة المدنية فهي الأساس الضامن لتطبيق كل ما نفكر فيه من خطط وتحولات على أصعدة المجتمع والسياسة والاقتصاد والثقافة. ما المطلوب اليوم حتى بعد مضي أكثر من خمس سنوات على سقوط النظام السابق؟ بناء دولة ذات نظام دستوري نيابي قائم على انتخابات حرة ونزيهة تضمن حرية التفكير والتعبير ويجرى فيها تداول السلطة بحرية. دولة كهذه لا تتلاعب بها مصالح الأحزاب أو تستثمر مواردها بل هي دولة المواطنة الحرة. في الظروف العراقية تحتاج هذه الدولة الى قاعدة اجتماعية واسعة ذات منطلقات مشتركة تعمل بعيداً من الصراع الطائفي والاثني، فهي دولة مواطنين أحرار بصرف النظر عن طوائفهم وقومياتهم وانتماءاتهم - دولة يعد مبدأ الوحدة الوطنية جزءاً عضوياً من بنائها السياسي. هذه الاستراتيجية لا بديل لها لتطورنا الديموقراطي الحالي واللاحق، وهي تحظى في الظروف العراقية بأهمية استثنائية نظراً للماضي السياسي الاستبدادي والانشقاقي في العراق، ونظراً لأن تجربة غياب الدولة بعد الاحتلال جرّ الى كوارث هائلة. أرى ان تلازم الدولة الديموقراطية والوحدة الوطنية الحقة هو الطريق الجديد لمجتمع يحاول التغلب على آلامه وانقساماته مودعاً الماضي الاستبدادي كله وواضعاً فترة الاحتلال الصعبة بكل متاعبها خلفه. بهذا المعنى ستظهر عملية بناء الدولة هذه ضرباً من التحرر المدني الشامل إذا واصلنا دعمها بمكتسبات التجربة التالية على صعيد الفكر والتقنية والإعداد البشري. في مقابل إنجاز تلك المهمة ستكون السياسات العامة في كل الميادين محكومة بقواعد الإصلاح والنمو وإعادة البناء. ومعروف أن العراق عاش لسنين طويلة نسبياً في حالة عسيرة من التخلف وتتحكم به القرارات الفردية وسياسات الانغلاق على الذات، ما ترتب عليه عواقب وخيمة على مستوى تردي مستوى المعيشة، وضيق سوق العمل، وانعدام الاستثمار، والبطالة، وتدهور القطاع الخاص وهيمنة النظام السياسي على موارد الدولة. على العراق الآن أن يرسم صورة جديدة لنهوضه: بالانتقال من اقتصاد شمولي الى اقتصاد مفتوح وقادر على الإفادة من المبادرة والمشروع الحر والمنافسة البناءة، وذلك بسن قوانين وتشريعات سليمة، وبالسعي الى مستوى جديد من إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية وفق منهج سليم. المطلوب اليوم إصدار قوانين وتشريعات تحول قواعد العمل الاقتصادي والتنموي تحولاً جذرياً وتيسره وتمكن الناس من الإفادة من ثروات بلدهم المتنوعة. ولعل قطاع النفط والغاز هو القطاع الأكثر حيوية والأشد حاجة لإصلاحات جذرية لتمكين بلدنا من توفير الموارد المالية المطلوبة للتنمية وإعادة البناء في شتى المجالات. بيد أن الواقع الاقتصادي لبلدنا ما زال في قعر الزجاجة بسبب الفساد وعدم وجود قاعدة قانونية للرقابة وللحساب فعالة. ان عملية إعادة الإعمار التي طال الحديث عنها باتت مثيرة للتساؤل والمحاججات. لنأخذ مثالاً على ذلك حالة القروض والمنح الدولية التي تبددت لعدم وجود نظام صارم للرقابة، فضلاً عن وجود الكثير من العقد والحسابات الخفية. لقد تلقى البلد مبالغ هائلة، من خلال قنوات عدة، وصلت نحو 118 بليون دولار، بيد اننا لم نشاهد إلا القليل مما يعد في خانة إعادة الإعمار. أين ذهبت تلك الأموال؟ إن تقارير المفتش العام الأميركي جديرة بالدراسة في هذا الشأن. والتفكير الجديد الواجب اعتماده منهجاً ودليلاً يستدعي أن نعالج أموراً جوهرية عدة: تحفيز الاستثمار، تطوير القطاع الخاص، تطوير المجتمع المدني، العناية بحقوق المرأة. هذه الموضوعات عولجت في الكتاب من وجهة نظر التنمية المستدامة. ومن الأمور المهمة التي يجب تأكيدها، والمشروحة في الكتاب، أن مستقبل العراق وحماية مصالحه لا يمكن أن ينفصلا عن الاهتمام ببيئته القومية العربية. الترابط بين الاثنين هو عنصر عضوي في أية استراتيجية لبناء مستقبل جديد، وهو ترابط لا تمليه مصالح اقتصادية وثقافية وحسب، بل تفرضه دواعي الحرص على بناء أمن عربي مشترك لا تنحصر اهتماماته في الجوانب الأمنية الفنية بل تتعدى ذلك الى رعاية المصالح الإنمائية المشتركة وإيجاد قاعدة جدية لتفاعل خصب بين محاور الاقتصاد العربي. الكتاب خرج من أتون تجربة متوترة، مؤلمة، حزينة: الاحتلال، والتخندق الطائفي الذي وصل الى حد الاحتراب الأهلي، استمرار مشكلات الماضي، تفكك الدولة، الخراب الاقتصادي، المحاصصة الطائفية التي كرست نظاماً سياسياً سيئاً غير قادر على اتخاذ القرارات المصيرية. إلا أن التجربة العراقية لا تتمثل بهذه السلبيات وحدها، فبسبب الحيوية الشعبية، والتجربة التي جرى استيعاب دروسها، والانفضاح السريع لقوى العنف والإرهاب والفوضى، فإن العراقيين يقدمون اليوم مأثرة على صعيد أمانيهم وإصرارهم على تخطي الصعاب... وهذا الكتاب مكرس لطريق تخطي الصعاب واتباع سياسة فعالة للأمل. * كاتب وسياسي عراقي