تشكيل حكومة عراقية بعد انتخابات حافلة بالاتهامات، وفي منعطف مفصلي يتجاوز العراق إلى المنطقة والعالم، يكتسب اهمية تكاد ترتفع إلى"المصيرية"في دلالاتها واسهاماتها المتوقعة في تحديد خطوط سير هذا البلد ربما لعقد او اكثر. ويبدو ان محاولات تكريس سمة الحكومة الوطنية خارج دلالات الفصام الاجتماعي والسياسي المحلي المرتبط بالضرورة بخلفيات اقليمية ودولية تصطدم ولا ريب بخلل مفاهيمي يسود الوسط السياسي العراقي الذي ينحو في اتجاه رفع التعميمات"الاصطلاحية"إلى مستوى"الموقف السياسي"ومن ثم يتحول خيار"الاصطلاح المجرد"بديلاً لمدلولاته الفكرية. فمن"حكومة وحدة وطنية"إلى"حكومة استحقاق انتخابي"، ومن"حكومة توافق وطني"إلى"حكومة انقاذ وطني"، ثم"حكومة مشاركة"الذي تبناه اخيراً زعيم"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية"عبدالعزيز الحكيم. وعلى رغم هشاشة التسويغ الفكري والسياسي لاي من تلك المفاهيم خارج رؤية واقعية كاملة النضج للواقع العراقي من جهة، وتداخل الدلالات اللغوية والسياسية والاعلامية ايضاً بين كثير من هذه المصطلحات في اطرها الشمولية غير الرصينة على مستوى التنقيب الفكري والدلالة السياسية، فان التمسك غير المسوغ بأطر اصطلاحية جاهزة غير مؤطرة فكرياً يفتح الكثير من ابواب التأويل والتحليل حول نضوج فكرة بناء الدولة وقيادتها لدى الشريحة السياسية العراقية في اطار التمييز بين دلالتي تشكيل حكومة ما، او بناء دولة يفترض انها تعرضت لانهيار كامل بعد الاحتلال وتدخل كل الخطوات السياسية ما بعد ذلك التاريخ في محاولات اعادة بنائها مؤسساتياً وفكرياً واجتماعياً وسياسياً ايضاً، مرتبطة بتوابع امنية وايديولوجية ودينية ومذهبية تحاول كل منها ايجاد حيز ما في الدولة الجديدة. وربما يبدو منطقياً حديث"الفائز"في الانتخابات عن"حكومة استحقاق انتخابي"او ان يطالب"الخاسرون او"الأقل فوزاً"بحكومة"إنقاذ وطني"او"وحدة وطنية"تضمن إشراكهم. لكن ما هو"الاستحقاق"و"الإنقاذ"و"الوحدة"؟ وكيف يقرأ أي من هذه المفاهيم في نطاق اللعبة الديموقراطية حيناً وداخل اطار المصلحة الوطنية العليا حيناً آخر؟ يعمد السياسيون العراقيون في سجالاتهم المعلنة الى تبني فلسفتين تبدوان مختلفتين تماماً، تذهب الأولى الى ان الانتخابات والديموقراطية وشكل نظام الحكم وتوزيع المناصب... الخ، ليست أهدافاً في حد ذاتها، وان أزمة مركبة كالتي يمر بها العراق تحتاج اولاً الى ضمان وحدة البلاد المهددة بالتشرذم والتقسيم عبر ضمان السيطرة الجماعية على مفاتيح الأمن والتنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعلاقات الخارجية لضمان دولة موحدة قادرة على مواجهة تحديات المرحلة، فيما تستعين الفلسفة الأخرى بخلفية تاريخية وأكاديمية للتأسيس على مواقفها الداعية الى دفع قيمة"ديموقراطية الانتخابات"كهدف أسمى من شأنه ضمان الوحدة الوطنية او حتى الانصياع لإرادة الشعب بالانفصال من دون إنكار خطورة هذه التجربة وما تحتاج لضمانها من دماء إضافية تراق على مذبح الديموقراطية لتؤسس فكراً حاكماً يقبل الآخر ومعارضة تمارس واجباتها داخل مؤسسة الدولة وليس خارجها، باعتبار ان لا الديموقراطية بلا معارضة و لا دولة بلا ديموقراطية. لكن زاوية نظر اكثر موضوعية لكلا الطرفين تكشف عن مآخذ لا يجدر التغافل عنها، فالانتخابات بنسختها العراقية قد لا تمثل بالضرورة خطوة نحو الديموقراطية كما هي هدف ورمز ومعنى، فيما الديموقراطية بنسختها الاميركية لا تشمل أيضا طريقاً لحفظ وحدة العراق والأزمة. هنا تتجاوز الفلسفة المجردة الى أبعاد مغرقة في واقعيتها ربما يدركها الاميركيون ضمن أجندة حلولهم المقترحة للمأزق العراقي حين يتمسكون بحكومة"ترضي"الجميع كهدف معلن من دون طرح اي قواعد للوسائل المتبعة لهذا"الإرضاء"في ضوء واقع انتخابي يبدو متفاوتاً في توزيع خريطة القوى فيه. ومن الجهة الاخرى فان التغافل عن تجربة الانتخابات بفحواها الرمزية كخيار لا مناص من خوضه على رغم كل المآخذ التي سجلت على التجربة العراقية الأخيرة باعتبارها حديثة العهد، افتراض لا يمكن قبوله بخاصة حين يقترح"آلية التوافق"التي نالت نصيباً وافياً من النقد، وجرت البلاد الى نظام محاصصة طائفية وعرقية لا يترك في حال تجذره أي حراك مستقبلي لتجاوز محنة ما بعد الاحتلال بإشكالاتها الفكرية ورضاتها الاجتماعية. ولعل ذلك التداخل الاصطلاحي في ما يطرح على الساحة السياسية العراقية مرده الافتقار الى رؤية متكاملة للمشروع السياسي لأي من اقطاب خريطة القوى، في حين جهدت معظم الكتل والتيارات السياسية في تحصين رؤاها لمشاريعها المناطقية او لضمان مستقبلها السياسي ورفعه أحيانا الى منزله"الضرورة والمحتم والأبدي... الخ"، في ضوء قاعدة تبدو للوهلة الاولى غريبة في مخرجاتها تنص على ان: لا قاعدة للسياسة في العراق ولا ضمانات"مرتبطة بحقيقة ان"لا ديمومة للقواعد الشعبية للأحزاب المتصدية للمشروع السياسي العراقي ولا ضمانات في ذلك المشروع أيضاً". علمتنا المغامرة الاميركية - البريطانية في العراق ان تابوات الديموقراطية بألوانها وتجلياتها وتنويعاتها المختلفة محض"خرافة"لطيفة، وان الحدود الفاصلة بين المفترض والمقنن والمجرب والمثالي في الديموقراطية والممكن والطائش والكاذب والعدواني في السياسة متاحة للعبور وسط هذا الكم من التاويلات التنظيرية او الواقعية وهي عميقة الجذور ومتأصلة في جوهر النظام الدولي الحديث. اما الإجابة عن اسبقية ما بين الديموقراطية والسياسة فلا تغدو مجدية في بلد يحاول النهوض من الخراب كالعراق، مثلما اثبتت التجارب الحديثة انها غير مجدية لضبط صراع السيطرة داخلياً واممياً وان براغماتية السياسة تجاوزت منذ عقود مثالية الديموقراطية ما ينقل القضية برمتها الى التقديرات القائمة على ضمان المصالح وصيروراتها التي تكون قاصرة ومجتزئة حين تهمل"المصلحة الوطنية العليا"على رغم ما يثيره هذا المصطلح الأخير أيضا من إشكاليات لغوية وفكرية وواقعية يكثر الجدل حولها.