في"بنتين من مصر"للمخرج المؤلف محمد أمين الذي جابهته إشادة نقدية واسعة، حتى اعتبره بعض النقاد أهم فيلم مصري تم عرضه في الموسم السينمائي الحالي، يتعرف الجمهور الى مخرج جاد، واعٍ بقدر ما هو موهوب. غير أن البطل الحقيقي للعمل هو الشركة المنتجة للفيلم، والتي غامرت بإنتاجه عن ظاهرة اجتماعية ذات أبعاد سياسية، ذلك من دون أدنى عناصر جذب للجماهير، كالمطاردات والمعارك أو المشاهد الساخنة، أما البطل الآخر للعمل هو الرقابة على المصنفات الفنية التي مررت فيلماً يشير بالإدانة للاختراق الأمني للمواطن في كل المجالات وإحكام قبضته على ألسنة المواطنين وأقلامهم وحتى مصائرهم، الأمر الذي يعد محفزاً يستنهض الهمم للتحرر وتحطيم الأغلال. المخرج محمد أمين مُقِلٌّ في أعماله فقد أخرج فيلمين منذ بداياته اتسما بالجرأة والخروج عن السائد هما الفيلم الكوميدي"فيلم ثقافي"2000 و"ليلة سقوط بغداد"2005، والأخير يدور في إطار فانتازي، وفي"بنتين من مصر"يتخلى أمين عن الكوميديا والفانتازيا ليقترب من الواقع المعاش حين يعالج ظاهرة العنوسة التي تؤرق المجتمع. تناول أمين موضوعه بجدية فلم يكتف بالطفو على السطح أو استغلاله لتحقيق مكاسب تجارية. ويتعقب المخرج أصول الظاهرة ليكشف عن جذورها السياسية والثقافية وهو بذلك يتجاوز الأغلب الأعم من الدراسات الاجتماعية والمغالاة الصحافية التي توجز العلاج في بعض نصائح بعدم المغالات في متطلبات الزواج. شخصيات يستند المخرج في"بنتين من مصر"إلى معالجة درامية رصينة تتميز بالصدق في المواقف النابعة من التقاليد والروح المصرية. مواقف إنسانية مؤثرة تخلقها شخصيات متمايزة، منحوتة بمهارة وتنبض بالحياة، نجح في تجسيدها فريق من الفنانين يعكسون دواخلها المشحونة بالأحزان والفياضة بالأحلام. استهل الفيلم بمشهد محيّر لموقع غامض تتدفق من أحد جوانبه شرارة نارية. ذلك المشهد الذي عنى المخرج بتكراره خلال السياق ما يمثل النذير حتى يكتشف المشاهد في الختام أن الموقع لحجرة التشغيل في قاع أحد القوارب الغارقة. في مقدمة السرد يعرفنا المخرج الى شخصيتين غير غريبتين عنا، حنان الفنانة زينة والدكتورة داليا الفنانة الأردنية صبا مبارك وهما شابتان على درجة ملحوظة من الحسن والوسامة تنتميان إلى الطبقة المتوسطة وتشغلان وظيفتين محترمتين. وتمنح حنان لقب الموظفة المثالية في مكتبة الجامعة ويمنح العميد لداليا طالبة الماجستير مهلة لتسليم الرسالة، فهل تنجز الرسالة في الموعد مع عدم عضويتها بحزب الغالبية؟. تجاوزت كل من حنان وداليا سن الثلاثين من دون ارتباط بالزواج أو إقامة علاقة مع الجنس الآخر. الشابتان محتشمتان تحترمان التقاليد وتقدسان تعاليم الدين. وحنان على وجه الخصوص معجونة بخفة الظل والحيوية دأبت على رسم الخطط للفت منظر الزملاء، فهي تحتفظ في حقيبتها بقالب من الشيكولاته وشريط من اللادن، إضافة الى قرص من شهد الملكة لدعم التعارف بالزملاء. وهي تتعمد مصادقة زميلها المنقول حديثاً للإدارة فتهديه بضع نصائح من النت لمرضى قرحة المعدة. وكان قد أشار في موقف سابق لآلام في معدته. وحين يجمعهما أحد معسكرات الطلبة تختلق مكالمة هاتفية لتُسمع الزميل آراءها المناهضة لتحرر المرأة وإيمانها بطاعة الزوج لتنتهي الخطة بمفاجأة غير متوقعة حين يطلب ذات الزميل وساطتها لخطبة زميلة أخرى. لقد تملكت الشابة الثلاثينية الرغبة في الزواج من أجل إنجاب طفل فدأبت على شراء ملابس النوم الحريرية. وفي موقف آخر من أكثر المواقف إنسانية وتأثيراً تطلب من عاملة الشاي أن ترضع طفلها فتفيض عيناها بالدموع وهي تلقم الرضيع ثديها. كل الأبواب تطرق"حنان"كل الأبواب من دون كلل فتحضر جلسات العلاج الجماعي في عيادة طبيبة نفسية وتسجل بياناتها في مكتب للتزويج وقد دأبت على الاتصال بالمكتب لتعديل بياناتها بما يمثل تنازلاً في مواصفات العريس أو متطلبات الزواج، وأخيراً تعقد خطبتها على مدرس جامعي إياد نصار غير أنه يعاني من الهواجس في ما يخص عفة وطهارة البنات فترضخ لإرادته ? رغم معارضة المقربين ? وتصحبه إلى طبيبة نسائية لإثبات عذريتها، غير أن هواجسه المريضة تغلب البرهان العلمي ويفك ارتباطه بها. على مدار السرد تجد حنان في أحلام اليقظة متنفساً لرغباتها فتعيش لحظات وردية وأحياناً كابوسية حين تتخيل يوم وفاتها والتفاف الجميع حول نعشها. يعمد المخرج لتسمية الشبان الثلاثة التي ألتقت بهم الدكتورة داليا خلال السرد باسم جمال تيمناً باسم الزعيم الخالد وتعقباً لما ألم بالفكر والحلم الناصري عبر السنين. تشارك داليا في موقف احتجاجي ينظمه نادي الأطباء وهناك تلتقي بزميل كان قطباً بارزاً في اتحاد الطلبة واليوم هو مشارك فعال في المعارضة فيتآلف قلباهما ولكنها في اللحظة التي تدون فيها اعترافاً بحبه تكتشف أن الزميل مطارداً من الأمن على جبهة المعارضة وهنا في لقطة مصيرية تكور ورقة الاعتراف وتقذف بها إلى الطريق. وتتعرف داليا على"النت"الى"جمال"آخر الفنان أحمد وفيق يلقب نفسه باللامنتمي حيث أنه مطارد من الأمن لموقفه الناقد للفساد وتردي الأحوال فيعتكف في بيته ويتواصل مع العالم بالنت. تجد داليا راحة نفسية في تواجد شخصية تهتم بها لدرجة أنه ينهرها في حالة تقصيرها. ويكشف لها اللامنتمي عن آثار التعذيب محفورة على ظهره ويخبرها أنه يرفض فكرة الزواج حيث لا ضمان لحياة آمنة لزوجته وأولاده. ومن أطرف المشاهد في السياق حين يرتجلان عبر النت خناقة زوجية تشيع البسمة بضع لحظات على وجهيهما قبل أن يقبض عليه لنشره على مدونته مقالة نارية. وتتعرف داليا على جمال الثالث الفنان طارق لطفي في حجرة جرداء بمكتب التزويج. حصل جمال على قطعة أرض لاستصلاحها في إطار مشروع الحكومة لدعم الشباب فكيف كان ذلك الدعم؟ في اللقاء التالي يحمل به بشائر كدحه على مدار سنوات لإنتاج طماطم مدهشة كما اللآلئ ويصحبها مع شقيقتها إلى المشروع للتعرف على الظروف الخشنة التي يحياها من أجل أن ينتصر اللون الأخضر على الصحراء. وما أن تعقد الخطبة حتى تفاجأ بالحكم على جمال بالسجن لعدم وفائه بقرض الحكومة فيقرر الهرب إلى مصير مجهول قبل تنفيذ الحكم. بات من الواضح بما لا يدعو إلى الشك أن وراء كل شخصية دراسة واعية بأبعادها. وأن المخرج لم يدخر وسعاً لإثراء الحبكة بروافد ثانوية غاية في التأثير. في ذلك الإطار تتخير الدكتورة هويدا زميلة داليا والتي تماثلها في العمر حلاً وسطاً حين تقيم علاقة سرية مع أحد الزملاء بعقد عرفي غير معلن"خشية غضب الله". وتتوهج الفنانة القديرة سلوى محمد علي في شخصية أبلة عايدة التي تمثل المستقبل القاتم بالنسبة للشابات. تعيش أبلة عايدة وحيدة وقد تقدم بها العمر من دون ونيس فيخاصمها النعاس وتلجأ إلى مقعد في حديقة لتأتنس بضجيج الأولاد. أما شقيق داليا وكان يتمنى هو الآخر أن يحمل اسم جمال فقد مر على تخرجه بضع سنوات من دون عمل. تتعاطف معه شقيقته وتهبه"تحويشة"عمرها من أجل عقد عمل في الخليج غير أن الشاب يغافلها ويدفع بالمبلغ لأحد سماسرة الموت فيكون أحد ضحايا عبارة. ويعود كسيحاً بصحبة عشرات من الجثث الطافية ويعد غرق القارب واحتشاد الأهالي التعساء على الميناء وبينهم داليا وحنان وما تبعه من استعراض الجثث في مشهد الذروة في الفيلم. لا أن المخرج يحمل في جعبته المزيد!! فيلم"بنتين من مصر"لمخرجه محمد أمين عمل مركب تمت صياغته على عدة مستويات ويمكن مشاهدته من وجهات نظر عدة. ومن الواضح أن ظاهرة العنوسة فيه ليست سوى قمة جبل الجليد التي تطفو على السطح وإن امتدت قاعدته لأعماق سياسية واجتماعية. استطاعت المونتيرة مها رشدي أن تجمع أطراف الدراما في نسق مشوق مشوب بخفة الظل رغم ما أصاب المشاهد الختامية من ترهل وزرعت عنصر المفاجأة خلال المعالجة ومزجت العام بالخاص. واللافت أن الوجود الأمني كان حاضراً في كل المناحي، في المترو وفي صفوف المعارضة وأيضاً في الرقابة على المدوّنات، ويفيض الكيل بالمشاهد. وقد بات في غير حاجة للمزيد حين يخلف أحد المهاجرين الشبان على طريق المغادرة في المطار بصقة يودعها صندوق المهملات، بينما ترتضي الشابتان مقابلة عابرة لبضع دقائق في المطار مع أحد العرسان، ذلك قبل عودته لعمله في الخليج لعله ينتقي واحدة منهما. فيلم"بنتين من مصر"عمل درامي رصين ثمرة دراسة ووعي عني المخرج الفنان بصياغته في سلاسة ومن دون تعال أو افتعال، ما يعد علامة فارقة في الإنتاج السينمائي المصري بين أفلام الهزل والهروب من الواقع.