بين المتاحف المهمة في الأرجنتين، متحف"إيفيتا"الذي افتتح عام 2002 وسط العاصمة بوينس آريس ونُفّذ بعناية فنية، كمرآة تروي الحياة الشخصية والاجتماعية والسياسية لإنسانة تركت أثراً بارزاً، كما تركت صدمة لدى معظم الأرجنتينيين برحيلها المبكر عام 1952. إيفا بيرون شخصية إشكالية بمزاياها، فمن جهة يعتبرها البعض المرأة الفقيرة والأمية والغانية التي جاءت من قاع المجتمع لتحكم البلاد، وسرعان ما تزينت بأغلى الجواهر وارتدت ملابس المصممين العالميين. ووصفتها مالكة أحد متاجر المجوهرات بأنها ك"روبن هود"، تسرق من الأغنياء لتعطي الفقراء لكسب دعمهم، من دون دفعهم للعمل لتطوير البلاد، محققة وزوجها الجنرال بيرون الثروات باسمهما! وهي أيضاً الملتبسة من حيث علاقتها في ذلك الحين من الفرنكويين والنازيين والفاشيين - بتوجيه من زوجها بالطبع - وهي المرأة التي وصفت بالثورية، العاملة على ترسيخ العمل النقابي للعمال وتحقيق أحلام النساء. ومن الصعب التحدث عن تاريخ الأرجنتين من دون ذكرها، ويكفي القول إن الحكومة العسكرية التي استولت على الحكم 1955 نافية زوجها الرئيس خوان دومينغو بيرون الى مدريد، دمرت كل ما يتعلق بها وزجت في السجن كل من يلفظ اسمها، ملاحقة حتى جثمانها، ولكن، من جهة أخرى تبارى الكتّاب والمخرجون والموسيقيون في تناول سيرتها، وكان فيلم"إيفيتا"1996 الذي أدت مادونا فيه شخصيتها انتشر في العالم، ناهيك عن الأفلام الوثائقية والأغاني التي كان أولها والأكثر شهرة إثر رحيلها:"لا تبكِ عليّ أرجنتينا..."التي غنّاها أكثر من فنان عالمي. ارتأى مديرو المتحف أن تبدأ حكاية"إيفيتا"من رحيلها، وإيفيتا هو الاسم المصغر لاسمها الحقيقي ماريا إيفا دوراتي. البداية صالة خافتة الأضواء، عند مدخلها صورة لإيفيتا، ببسمة هادئة، ممسكة بزهرة الى صدرها، والى جانبها عبارة:"أدعوكم للتعرف إلي"، وهي الجملة الأولى من مطلع كتابها"مبرر حياتي"- الصادر عام 1951 وكتبته كما قيل بمساعدة الصحافي الإسباني مانويل بينييللا، وقد فرضت الحكومة البيرونية تدريسه نسبة الى الحزب المسمى بالعدالة الاجتماعية الذي يتزعمه بيرون وبات يعرف باسمه طبقاً للمادة 14 - 126 في المدارس عام 1952، كما في الدورات المتقدمة لشهادتي القانون والآداب! وعلى إيقاع موسيقى التانغو يبرز نحت نحاسي لرأسها، ومن شاشة جدارية كبيرة تطل في سكون الصالة بصوتها الهادر فتوحي للزائر بطريقة خطابها وحركة يديها بهتلر وموسوليني. إنه خطابها الأخير من شرفة البيت الحكومي الزهري اللون أو"كاسا روزادا"التي استخدمتها دوماً لإلقاء خطاباتها - وشهدت الشرفة إثر موتها بثاً لنص كتبته خلال الأيام الأخيرة لمرضها، يحمل عنوان"رسالتي"، هو الأكثر اشتعالاً بالأحاسيس ويعكس طبيعة أفكارها - أمام حشد من آلاف يصرون على قبولها منصب نائبة الرئيس، مشهد ينتهي بحشرجة صوتها لاجئة الى صدر بيرون، إنه الخطاب الشهير الذي اعتزلت فيه السياسة بسبب ما تعاني من مرض وبسبب ضغط العسكر، وتضمن عبارتها القائلة"إنني باعتزالي لا أعتزل تضامني مع العمال، ولا شرف تمثيلي لكم، وأعلم أنكم سترفعون اسمي كما علم البلاد بعد موتي"... ثم تنتقل الشاشة الى المشهد الوثائقي لتشييعها، يرافقه صوت أحد المسؤولين الذي بثه الراديو عشية 26 تموز يوليو 1952 ناعياً بإيقاع متأثر إيفيتا، مسمياً إياها بالقائد الروحي للبلاد. ولعل مشهد وفاتها وتأبينها الرسمي والشعبي في هذا الفيلم الوثائقي، بمواكبة أكثر من مليوني شخص يرشونها بالزهور، يصنفها في خانة الشخصيات الكبرى. من الموت وصالته يتوجه الى صالتي الطفولة والمراهقة. صور بالأسود والأبيض تروي ولادتها في السابق من أيار مايو 1919 في إحدى مزارع محافظة لوس تولدوس. امها"خوانا ابرغيرن"كانت تعمل طاهية لأحد المزارعين"خوان دوآرتي"، منجبة منه خمسة أبناء وإيفيتا هي الرابعة، أبناء غير شرعيين، لم يعترف بهم الأب لئلا يعكر علاقته بعائلته الشرعية! بعد وفاته عام 1926 تدهورت أوضاع العائلة الاقتصادية، وباشرت الأم العمل لإنقاذ ابنائها، لذا ضمت الصالة آلة الخياطة خاصتها، وللبحث عن حياة أفضل تنقل الصور ترحال العائلة عام 1930 الى"خونين"ثم الى بوينس آيريس 1934 بفضل مباشرة الأخ الأكبر العمل بائعاً، وبفضل الانفراج الاقتصادي للبلاد وما حصل من هجرة داخلية ما بين 1930 و1940. ونقلاً عن لسان غالفيز الذي يعمل سائقاً لشاحنة، فإن إيفيتا تعرضت لصدمة رافقتها مدى الحياة بسبب اغتصابها ورفيقة لها، إلا أن كل ذلك لم يلغ الطفلة المرحة، بل بدأت الملامح الفنية لإيفيتا في مدرستها في خونين نفسها، وهو ما ترويه الصالة المجاورة في المتحف، ويمكن عبر الصور، رؤية إيفيتا كموديل ومذيعة وممثلة سينمائية ومسرحية، حيث اتخذت طابعها وشخصيتها الفنية ما بين 1934 و1945 وكانت واحدة من الباحثين عن حظ أفضل، بادئة بالعمل في محطات إذاعة، واصبح اسمها معروفاً على هذا الصعيد مع وجود صعوبات في الأجور، لذا اندرجت في مجموعة agrupacion radial argentina لتصبح رئيسة لها في عام 1944 للدفاع عن حقوق العاملين. أما في ظهورها السينمائي القليل منذ عام 1937 فكانت ممثلة درجة ثالثة إن صح التعبير، وظلت تنتظر حظاً أفضل حتى عام 1944 حين برزت في الفيلم"رحلة للسيرك على ظهر حصان". وضمت الصالة ملصقات افلامها وصوراً مع زملائها الفنانين. على جدار السلم الذي يقلك الى صالة تعرض حياتها الحميمية والسياسية، كتبت عبارة:"يومي الأجمل يوم تعرفي إلى بيرون". وتنتهي الجملة المأخوذة من كتابها، لتتجسد إيفيتا أمامك في صورة لها مفترشة صالون منزلها، ويخيل اليك أنك في المنزل الذي عاشت فيه مع بيرون بعد زواجهما، وإثر عودته كوزير من نفيه الأول في جزيرة مارتين غراسيا، وكانت إيفيتا لعبت دوراً في تحريره الى جانب المؤيدين، بعدما كانت تعرفت إليه في مناسبة جمع تبرعات لمتضرري زلزال سان خوان عام 1944 كما تشير شواهد الصالة من صور تلك الحقبة... ويعود صوتها من جديد قادماً من شاشة كبرى تضم الى جانبها متظاهرين خرجوا الى ساحة أيار، مطالبين بتحرير الكولونيل قائلة:"أنا مؤمنة أنني لست وحدي". وبعد عودته نفذ عام 1955 ما كتبه الى صديقه الكولونيل ميركنتي:"لقد تحملت إيفيتا الكثير، عندما أستعيد حريتي سأتزوجها وأذهب بها بعيداً وإن نحو الشيطان!". كانت إيفيتا أول سيدة أولى تجمعها صورة رسمية وزوجها عام 1946 إثر انتخابه رئيساً للأرجنتين كما تشير صورة كبيرة على الجدار يجاورها عرض لما تبقى من ملابس أنيقة لمناسباتها. في كل قاعة مقاعد تدعوك للجلوس وتورطك في المشاركة، التأمل والتريث، وتؤدي الى جانب الأفلام الوثائقية والموسيقى المنتقاة الى شعور المرء بأنه ليس وحيداً وأن هذه المرأة ما زالت حية. الى أعلى تنتقل حيث تشهد عبر أرشيف الصور نشاطاتها، وما حققته الى جانب بيرون، من إنجازات اجتماعية ومدنية بعدما تم تأسيس الحزب الحاكم، وأصبحت الناطقة باسم العمال بتحسينها أوضاعهم وشاركتهم في زي قمصانهم ككما هو معروف، كما عملت على تسحين أوضاع المرأة وتأسيس حزب لها كانت رئيسة له عام 1949، وللمرة الأولى باتت المرأة الأرجنتينية مساوية للرجل في الحقوق السياسية والمدنية طبقاً للقانون 10.013 بمادته الثالثة، ناهيك عن صور تجمعها مع أطفال ومسنين، وما تم بناؤه من مستشفيات ومدارس ومآوٍ، واتخذت هذه المشاريع اسم"مؤسسة إيفا بيرون للخدمات والمساعدات الاجتماعية". من ناحية أخرى يعرض المتحف نشاطاتها الديبلوماسية إذ عينت سفيرة لبلادها في جولة أوروبية، بعدما شغلت سابقاً منصب وزيرة للعمل والصحة ما زاد من عدد أعدائها. وكان مقدراً لتلك الجولة التي اتخذت اسم قوس قزح عام 1947 ثلاثة اسابيع، لكنها امتدت لثلاثة أشهر شاملة إسبانيا، إيطاليا، الفاتيكان، سويسرا وغيرها، ما أثار علامات استفهام، إذ تشير الوثائق المتلفزة أيضاً، بأنها التقت حينه نازيين وفاشيين متلقية المساعدات، وكانت المصارف السويسرية مركزاً لحسابات الحكم البيروني بشخص إيفيتا. وانطلاقاً من التناغم السياسي آنذاك، فتحت أبواب الأرجنتينيين لفلول الألمان النازيين، بعد خسارتهم الحرب العالمية الثانية، ولغيرهم من الفاشيين والفرنكويين، ممن لجأوا هاربين من بلادهم. تعبق الصالة الأخيرة التي يهبط زائر المتحف اليها بعبق بخور المدافن، أو هكذا يخيل في ظل العتمة، التي تكاد ترى فيها ملامح النعوش التي حملت لأكثر من مرة جثمانها، ففي 18 تموز يوليو 1952 وبعد تعرضها لسرطان عنق الرحم، دخلت للمرة الأولى في غيبوبة وتوفيت في 26 منه بوزن لا يزيد عن 38 كيلوغراماً وعن عمر لا يتجاوز 33 سنةً. تم تحنيطها وبقي جثمانها لمدة 14 يوماً في نقابة العمال، لينقل الى جهة مجهولة خشية من العسكريين، وبحسب المصادر تم تهريبه في 23 نيسان ابريل 1957 الى إيطاليا، ليدفن تحت اسم ماريا ماجي ماجيسيتريس في مقبرة مايور في ميلانو، حاملاً تابوتها الرقم 41. ويقال إن الجثمان نقل من جديد الى مدريد عام 1971 حيث عزل بيرون، الى أن كانت مقبرة"لا ريكوليتا"المشهورة مقبرة الرؤساء والشخصيات في بوينس آيريس عام 1976 آخر مطاف للجثمان. أجاب موظف مكتبة المتحف رداً على سؤالي:"الأرجنتينيون هذه الأيام يحبون إيفيتا والبيرونيين كما أحبوهم وكرهوهم قبل 66 سنةً".