يمثل الروائي الجزائري ياسمينة خضرة حالة إشكالية بامتياز، بدءاً باسمه المؤنث المستعار، وقصة انتقاله من ثكنات الجيش التي قضى فيها أكثر من ثلاثة عقود، إلى ميدان الأدب، مروراً بمضامين كتاباته ومواقفه ولغته الروائية، وصولاً إلى روايته"الاعتداء"التي اقتبسها مراد السنوسي للمسرح، وتولى إخراجها أحمد خودي، بعنوان"الصدمة"، لتعرض ضمن"المهرجان الوطني للمسرح المحترف"الذي عقد، في الجزائر العاصمة. رواية"الاعتداء"، التي تقارب القضية الفلسطينية من منظور خاص، تندرج ضمن ثلاثية روائية تشمل كذلك"سنونوات كابول"التي تناولت ظروف الحرب في أفغانستان والحياة في ظل حكم"طالبان"، و"صفارات بغداد"، خاتمة الثلاثية، التي تبحث في الدوافع التي تقود المرء إلى تفضيل"العمليات الانتحارية". في هذا المعنى، فإن"الاعتداء"تعد جزءاً من رؤية متكاملة للعالم الإسلامي، إذ يسعى صاحبها إلى رصد بؤر الصراع في المنطقة، ومناقشتها، ومساءلتها روائياً. وما أسهل، والحال كذلك، أن يجد الكاتب نفسه وسط تقويمات متفاوتة تتأرجح بين السخط الشديد والرضا التام ما دام قد اختار الذهاب إلى أكثر المناطق التباساً، وتوتراً، وغموضاً: أفغانستان، فلسطين، العراق... فالجراح لم تزل نازفة، وفي وسع الضحايا أن يكونوا شهوداً حاسمين عند أي تحريف لمسار الأحداث، أو لدى أي تضليل يمس جوهر الصراع هنا وهناك. لا شك في أن النيات الطيبة هي التي دفعت أعضاء المسرح الجهوي لمدينة وهرانالجزائرية إلى اختيار نص"الاعتداء"لياسمينة خضرة، وتبدى ذلك في حديث لكاتب السطور، بعد العرض، مع عدد من الممثلين: محمد فريمهدي، عبدالقادر بلقايد، فضيلة حشماوي الذين ذكروا بأن اختيار نص خضرة جاء انسجاماً مع دورة المهرجان المحتفية بالقدس"عاصمة أبدية للثقافة العربية"، وبغرض إظهار عدالة القضية الفلسطينية، وتأييد حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس. لكن مشكلة النص الروائي، وبالتالي مشكلة العرض المقتبس عنه، تتمثل في الانطلاق من بداية خاطئة، وهذه البداية، غير الموفقة، تتحكم في مسار الأحداث اللاحقة. فالعرض يبدأ بتفجير انتحاري يقع في أحد المطاعم في تل أبيب ليحصد أرواح عدد من مرتادي هذا المطعم بينهم أطفال. وهنا يقع على عاتق العرض البحث عن مسوغات لهذه العملية، والسؤال: كيف يمكن إقناع المتلقي بأن هذا التفجير الذي أودى بحياة أطفال أبرياء، هو مبرر؟ وتزداد صعوبة المهمة في أوساط المجتمعات الغربية المؤمنة بفلسفة كانط التي تقول إحدى مقولاتها:"لو كانت سعادة العالم بأسره مرهونة بقتل طفل بريء، لاعتبر قتل هذا الطفل جريمة لا تغتفر". ويجب ألا ننسى، هنا، أن الخطاب الإعلامي العربي، يدين تلك العمليات"الانتحارية"، فما بالك بالإعلام الغربي. بطل العرض، أمين الجعفري، هو طبيب عربي مسلم، يحمل الجنسية الإسرائيلية، ويعيش في تل أبيب حياة هانئة مع زوجته سهام، ولدى عودته إلى منزله، بعد نهار مضن عالج خلاله عدداً من الجرحى نتيجة ذلك الانفجار، يتلقى مكالمة هاتفية تفيد بأن زوجته هي من بين الضحايا، بل تتهم زوجته بأنها من قامت بذلك التفجير. يصاب الجعفري بصدمة قاهرة بعدما اقتنع بأن إسرائيل يمكن أن تكون"واحة طمأنينة ورخاء". عندئذ، يضطر للذهاب إلى الضفة الغربية، ليعرف من أقربائه وأقرباء زوجته الذين يعيشون في جحيم الاحتلال، الأسباب التي قادت زوجته"الرقيقة والمسالمة"، بحسب العرض، الى تنفيذ مثل هذا العمل"الإرهابي". يقصد مدينة"بيت لحم"، فيكتشف ان زوجته كانت تتردد على مسجد المدينة للقاء الشيخ مروان الذي حرّضها على هذا التفجير، ويبدي الجعفري استغرابه من القدرات الخفية لهذا الشيخ الذي دفع زوجته"لتقدم نفسها قرباناً ليعيش هو وأمثاله في الظل ويبعث النساء والأطفال تنسف أجسادها بدلاً منه...". ولأنه يرى زوجته"ضحية"فيما الشيخ ومريدوه يرونها"شهيدة"، يطرد من المسجد ليذهب لمقابلة مجموعة من الفدائيين ويلقى الصد ذاته. خلال هذه الجولة يتعرض الجعفري لمعاملة قاسية من رجال المقاومة، ومن رجال الدين، ومن رجال السلطة الوطنية الفلسطينية الذين اعتبروه جاسوساً للإسرائيليين. وهنا أيضاً تظهر المفارقة، فرجل الأمن الإسرائيلي الذي حقق معه، كان يعامله بتهذيب ولطف، بينما عامله أشقاؤه الفلسطينيون بعنف وقسوة. وهذا ما أثار حفيظة بعض النقاد الذين رأوا أن خضرة يتعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي بحياد وبرود في وقت ينبغي أن يناصر، بلا تحفظ، الفلسطينيين الذين يتعرضون لأقسى أنواع القمع والاضطهاد على يد الجيش الإسرائيلي. ولعل هذه النبرة المعتدلة"المهادنة التي تساوي بين الضحية والجلاد هي التي سوغت ترجمة الرواية إلى اللغة العبرية، إذ احتفى بها الإسرائيليون على رغم اعتراض بعض المتشددين منهم على فحوى الرواية. يقول مخرج العمل احمد خودي انه كان"أميناً لروح النص"، ما عدا بعض التعديلات التي يتطلبها تحويل السرد الروائي إلى نص مسرحي بصري. وهذه الأمانة هي التي تضعنا إزاء قراءة مغايرة للصراع العربي - الإسرائيلي. وهذه القراءة تقوض النظرية القائلة إن"الإرهاب العربي يولد من رحم الفقر والمعاناة"، ذلك أن منفذ التفجير، في هذا العرض، هو امرأة عربية تعيش حياة مستقرة، سعيدة، كما يفترض، مع زوجها الطبيب في مدينة تل أبيب! ومع أن العرض لم يغفل تلك الممارسات الهمجية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي، ولم يغفل كذلك ظروف الاحتلال القاسية، وخصوصاً ما جاء في الرسالة الوجدانية المؤثرة التي تركتها سهام لزوجها، والتي دونت فيها الدوافع التي قادتها إلى الإقدام على هذا العمل الانتحاري، إذ خلصت إلى القول انها"لا تريد أن تنجب أولاداً بلا وطن، ولا تريد أن تحيا حياة الذل، لذلك فضّلت أن تضحي بنفسها في سبيل الوطن"، نقول على رغم ذلك، إن الرواية، وبالتالي العرض الذي قدم باللهجة العامية الجزائرية، نأيا عن جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي المتمثل في احتلال الأرض، وما يفرزه هذا الاحتلال من عذابات ومعاناة مستمرة منذ أكثر من ستة عقود، ناهيك عن الحروب التدميرية التي تشنها إسرائيل بين حين وآخر، ولعل آخرها، الحرب على غزة. سنظلم محمد مولَسهول، وهو اسمه الحقيقي قبل أن يستعير اسم زوجته ياسمينة خضرة تهرباً من رقابة الجيش الجزائري التي تحظر على الضباط الكتابة بالاسم الصريح، سنظلمه كثيراً إذا سلمنا بأنه ينحاز في هذه الرواية إلى إسرائيل، ولكن، بقليل من العناء، يمكننا تبين الخلل البنيوي الذي تقع فيه الرواية، فتخفق في توضيح الحقائق. إن شخصية البطل الجعفري في الرواية، وتالياً في العرض، غير مقنعة، إذ نجده يتجاهل ذاكرته وجذوره بحجة التكيف مع المجتمع الإسرائيلي الذي يحتل الأرض والتاريخ، ثم كيف للمتلقي أن يتقبل جهله أفكار زوجته سهام، وهو الذي لا يكف عن تذكيرنا ب"الحب العميق"الذي كان يجمعهما، ذلك الحب الذي يفترض أن يدفع كل طرف إلى البوح للآخر بهواجسه وأفكاره، ثم نفاجأ، مثلما يُفاجَأ الزوج، بما فعلته زوجته الوفية وفضلاً عن ذلك، فإن العمل ينهض أساساً على مقدمة خاطئة، تقود إلى نهايات غير مفهومة، على رغم المشهد الأخير الذي يعبر عن"التصالح مع الذات"، إذ تتراءى الزوجة في الحلم، بينما يظهر الزوج وكأنه يغفر لزوجته، ويتفهم الدوافع التي قادتها إلى التفجير. ولعل من المفيد هنا اقتباس ما يقوله خضرة عن رواية"الاعتداء":"إنه كتاب التساؤلات. ما معنى الاندماج في بلد مُغتصَبٍ؟ وما معنى الحبّ في زمن الكراهيّة والتمييز العنصريّ والقمع والإذلال؟ وهل نستطيع أن نستمرئ سعادتنا بين المضطهدين؟ وهل من الممكن أن نتخلّى عن شعبنا من أجل جواز سفر بالتبنّي؟"، ويمضي خضرة في طرح الأسئلة:"أي الاعتداءين أكثر وحشيّة؟ اعتداء سهام أم اعتداء إسرائيل؟ ما يقع في فلسطين لا يمكن تصنيفه أو تحديده. وكلّ جراح العالم تصدر عن هذا الوطن الشهيد والمغتصب والمتروك للجلاّدين في صمت الضمائر الطيّبة. وأشعر بالتعاسة في كلّ مرّة أسمع فيها طفلاً يصيح وفي كلّ مرّة تلطم امرأة خدّيها وفي كلّ مرّة تصيح عائلة غضباً وكدراً لأنّ سفينة أو صاروخاً أو رصاصة طائشة قد عمّقت الهوّة أكثر. والأكثر مأسويّة هو لين المجتمع الدولي بل تواطؤه في أطول مذبحة في تاريخ البشريّة. وأنا مغتمّ كثيراً لأنّه لن يكون ثمّة سلام على الأرض ما دامت فلسطين لا تعرف السلام". هذه الهواجس الإنسانية النبيلة، وهذه الأسئلة العميقة لم تظهر في العرض المسرحي، وهي تساؤلات قد تبعد تهماً متوقعة عن خضرة. لكن كل ذلك لن يعفي الروائي من الشكوك التي ستحوم حول نصه الروائي هذا، وحول العرض المقتبس منه، خصوصاً ان استوديوات هووليود قد تبنت هذا العمل لتصويره سينمائياً، ولا يتسع المقام هنا للحديث عن غايات هوليوود المعروفة، وعن طبيعة نظرتها الى العالم الإسلامي، بيد أن مجرد اختيار هذا العمل يطرح أسئلة استفهام كثيرة! نشر في العدد: 16875 ت.م: 17-06-2009 ص: 30 ط: الرياض