عندما أصدر الكاتب الجزائري الفرنكوفوني ياسمينة خضرا روايته «الاعتداء» (أو «الهجوم» كما يحلو لبعضهم أن يترجم العنوان) عام 2005، بدا أنه يوازي بين الإرهاب الإسرائيلي و «الإرهاب» الفلسطيني في فلسطينالمحتلة أو إسرائيل، مع ميل شبه معلن إلى إدانة الفلسطينيين، الذين يمارسون القتل الجماعي عبر ما يسمى أعمالاً انتحارية. لم تكن الرواية بريئة تماماً في هذه المقارنة بين العنفين، عنف الجزار وعنف الضحية، بل إنّ الكاتب الجزائري المعروف عالمياً، والذي يُعَدّ من أهم الأصوات الروائية الفرنكوفونية اليوم، لم يتوانَ عن منح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي طابعاً تراجيدياً، وكأنه صراع داخل الذات الفلسطينية المنفصمة في انتمائها المزدوج (عرب 1948) وفي انقسامها على نفسها. فالرواية التي تجري أحداثها في تل أبيب، تقدم صورة عن حال الانشراخ التي يحياها البطل، وهو طبيب فلسطيني إسرائيلي الجنسية لا يضيره أن يطبّب الإسرائيليين، وزوجته التي تلتحق سراً بالمقاومة الإسلامية وتنفذ عملاً انتحارياً ضد جمع من الإسرائيليين. أما المستهجن في الرواية، فهو الغربة التي يعيشها الزوجان بعضهما عن بعض، فما إن تقضي الزوجة في العمل الانتحاري، أو «الإرهابي» في نظر الزوج، حتى يشعر هذا الزوج بخيانة امرأته إياه، فيمضي في البحث عن ماضيها الفلسطيني الذي يجهله، بغية فهمها، مع أنه يجب عليه ألاّ يكون غريباً عن هذا الماضي المأسوي. ولكن هنا تكمن الغاية التي قصد إليها الكاتب ذو الطموحات الكبيرة التي لا يمكن أن تتحقق إلا في مثل هذه «المغازلة» التي يتبادلها مع اسرائيل. لا بدّ من العودة إذاً إلى رواية ياسمينة خضرا لدى الكلام عن المشكلة التي أثارها فيلم المخرج اللبناني زياد الدويري «الهجوم» بعد منعه من العرض في لبنان، ومن الترشح إلى جائزة الأوسكار، والتهمة هي «التطبيع». هذا الفيلم يقتبس الرواية بحذافيرها، ويقدمها كما هي، ولكن طبعاً عبر عين سينمائية تعتمد الواقع والمخيلة. والسينما، مثلما هو شائع، «تفضح» العمل الروائي عندما تنقله إلى الحيز البصري، وتغدو الرواية المقروءة عندما تتحول عملاً سينمائياً، عالَماً مكشوفاً، تبصر العين خفاياه وتعيش مع أبطاله وكأنهم من لحم ودم... ولذا، كان على رواية ياسمينة خضرا التي تخفي بضعة أسرار، أن تنكشف هنا في السينما. وواضح أن القراءة عن تل أبيب أمر يختلف تماماً عن مشاهدة تل أبيب، ولو من وجهة نظر واحدة، وهذا ما ينطبق على سائر التفاصيل التي تبدو نافرة أمام الكاميرا، على خلاف الرواية، القادرة على إخفائها، على رغم أن المادة الروائية تظل هي نفسها. كان منْعُ فيلم زياد الدويري في لبنان متوقعاً على خلاف الرواية التي لم تمنع بعد ترجمتها في بيروت... فبضعة مشاهد منه صورت في تل أبيب، وبعض الممثلين فيه إسرائيليون، وهذا أمر يدخل في سياق «التطبيع». لا نقاش هنا، وإن يكن الفيلم عُرض في مهرجان مراكش ونال جائزة كبرى، أو نال حتى إعجاب الفلسطينيين أنفسهم. والفلسطينيون، والكثيرون من العرب، ما عادوا يبالون بمثل هذه المسائل، وما عاد «التطبيع» يعنيهم، والاعمال الفنية المشتركة أو المنجزة في ظل الاحتلال باتت كثيرة، وبعضها له موقعه المتقدم في الحركة الإبداعية العربية، ناهيك عن الترجمة المتبادلة والكتابة بالعبرية... ولعل ما يثير في الرواية -وربما في الفيلم- أن الكاتب يغض النظر عن الإرهاب الإسرائيلي الذي يفوق الأعمال الانتحارية الفلسطينية عنفاً وقسوة وأصولية. العرب هم الأصوليون في نظر الغرب وبعض العرب المغتربين، أما الإسرائيليون فليسوا أصوليين البتة، علماً أنّ الأصولية اليهودية هي من أبشع الأصوليات التي عرفها التاريخ البشري والديني. مُنع الفيلم في لبنان وحوصر. حتى الصحافيون لم يتمكنوا من مشاهدته. وَصَلَتهم دعوة شبه سرية ليشاهدوه في إحدى الصالات، ثم تلقوا اعتذاراً عن عدم عرضه. وزير الداخلية جاهر بمنع الفيلم، نزولاً عند رغبة جمعيات مناهضة التطبيع، لكنه قال، نقلاً عن أصدقاء له، إن الفيلم لا يسيء إلى الفلسطينيين. كان هذا المنع متوقعاً، لاسيما الآن، الآن تحديداً، بعدما أطلق النظام البعثي في سورية حركة «المقاومة» السورية بالشراكة مع المقاومة الإسلامية اللبنانية التي يديرها حزب الله. بدءاً من الآن، ستشدد الدولة اللبنانية رقابتها على كل ما يوحي بالتطبيع أو يلمح إليه. المقاومة المغروسة في صميم الأجهزة اللبنانية أُضيفت إليها أخيراً مقاومة جديدة، بعثية و»علمانية». استفاق النظام السوري أخيراً من سُباته، وانتبه إلى أن الجولان محتل، وأنّ الوقت حان لتحريره بعد أن قضى -النظام- على شعبه، واستهلك ترسانته العسكرية في قصف المدن والقرى السورية. ولعل حزب الله كان أول المرحبين بهذه اليقظة، وأعلن جهوزه للانخراط في حرب التحرير. الآن اختلفت الشروط، المَدافع السورية باتت جاهزة لمواجهة أي اعتداء إسرائيلي بعدما تلقى النظام وعوداً من العدو بعدم الإغارة عليه بعد الغارات الأخيرة العنيفة التي دمرت ما دمرت من ترسانة الصمود والتصدي. زمن آخر يبدأ الآن، إننا نبصره بوضوح، زمن التصدي البعثي، زمن تحرير الجولان... ما أشدّ لامبالاتك يا زياد الدويري. الآن تقرر إنجاز فيلم يدعو إلى التطبيع؟