لا تخلو حفلات افتتاح المهرجانات العربية من المجاملات، وكلمات المديح المجاني، غير أن افتتاح المهرجان الوطني للمسرح المحترف في الجزائر، أريد له أن يكسر هذه القاعدة، إذ اقترب من الطقس المسرحي منذ البداية. جاءت حفلة افتتاح هذه الدورة، المهداة إلى القدس، عرضاً مسرحياً، قدمت فيه لوحات راقصة تظهر مراحل وطقوس «العرس» الفلسطيني التقليدي، في إشارة إلى أن إرادة الحياة والفرح تنتصر على الأحزان المزمنة. وكان المكرمون الكثر الذين يعتلون منصة التتويج يجلسون على الخشبة كي يكونوا شهوداً على هذا العرس، وفقاً للعادات الفلسطينية، بعد أن ترحب بهم وزيرة الثقافة خليدة تومي، ومدير المهرجان محمد بن قطاف. وتركت لحظات تكريم المسرحي اللبناني ريمون جبارة انطباعاً درامياً مؤثراً، فقد حمله المنظمون مع كرسيه لعجزه عن السير، وبدا جبارة، بدوره، مسروراً بهذه اللفتة الطيبة، ومصمماً على توجيه التحية للجمهور الذي احتشد في قاعة المسرح الوطني وسط الجزائر العاصمة. ومحمود درويش الذي حمل أوجاع القضية في قلبه ورحل، كان حاضراً، بدوره، عبر الشاشة، وهو يلقي مقاطع من قصيدة يقول مطلعها «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، معلناً هوية الدورة الرابعة المهداة إلى القدس عبر شعار «القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية». لا يخفى المدلول السياسي لهذا الشعار الذي يمزج بين السياسة والثقافة معاً، فالقدس التي اختيرت عاصمة للثقافة العربية للسنة الجارية لم تستطع أن تعكس هذه الصفة، ولم تتمكن من إبراز عمقها الحضاري والتاريخي نتيجة ظروف الاحتلال المعروفة. لكن القدس، وكما يقول بن قطاف، «أكثر عمقاً من كل تاريخ، أكثر امتداداً من 2009، القدس كانت وما زالت وستظل عاصمة أبدية في قلوبنا ثقافة وسياسة وقضية حملناها، أبداً، نبض حياة». وشاء المهرجان الوطني الذي تشهده الجزائر العاصمة حتى 4 الجاري أن يحتفي بهذه المدينة على طريقته الخاصة، وكأن المنظمون يسعون إلى جعل مدينة الجزائر مكاناً بديلاً للقدس التي تعذر عليها أن تترجم معنى لكونها «عاصمة للثقافة». «تُكتب على النَّبِرة...»، سمعتُ هذه الجملة من أحد الجزائريين وهو يرد على هاتفه النقال، وهو بذلك، كما خمنتُ، كان يرد على سؤال من أحد الأقرباء حول موقع كتابة الهمزة المتوسطة في مفردة ما، فالثقافة الفرنسية ما زالت طاغية على ملامح المدينة في الشوارع والمقاهي وأحاديث العامة، وفي لافتات المحال التجارية والمطاعم والدوائر الرسمية، وفي مقدور تلميذ ابتدائي من المشرق العربي أن يحصي الكثير من الأخطاء في اللافتات والشعارات، القليلة على أية حال، المكتوبة باللغة العربية التي يصادفها في الشارع. ناهيك عن أن مقالاً من مئة كلمة قد تجد فيه نحو ثلاثين خطأ لغوياً. إذا، على رغم أن الفرنكوفونية حاضرة بقوة في هذا البلد، لكن ذلك لم يمنعها من الاحتفاء بقضية العرب المركزية، وكأنها بذلك تعزز مكانتها كبلد يحمل إرثاً نضالياً، بلد قاوم المحتل وضحّى بمليون ونصف مليون شهيد حتى نال استقلاله في العام 1962. ويبدو أن الدورة وفية للشعار الذي ترفعه، فالملتقى العلمي، الذي يشرف عليه الروائي الجزائري واسيني الأعرج، والذي يرافق أعمال المهرجان، مخصص لمناقشة المحور الرئيس: المسرح العربي والقضية الفلسطينية، ويشارك فيه نخبة من المسرحيين الفلسطينيينوالجزائريين والعرب مثل وطفاء حمادي، ونادر القنة، وسامية حبيب، وأنور محمد، وتامر العربيد، وعبد الكريم برشيد، وعمر دوارة، ورغداء مارديني، وكريم عبود، وحسن تليلاني، وابراهيم نوّال، وعبدالناصر خلاف وسواهم. يعرض في هذه الدورة نحو ستة وعشرين عرضاً مسرحياً، بينها نحو عشرة عروض وطنية جزائرية تشارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الذي يقضي نظامه بأن تتنافس على الجوائز العروض المحلية فحسب، أما العروض الأخرى القادمة من العراق وسورية وتونس والسويد والمغرب وفلسطين، فهي تعرض خارج المسابقة الرسمية، فضلاً عن عروض أخرى جزائرية تقدم خارج المسابقة. وتتألف لجنة التحكيم من عدد من النقاد والباحثين المسرحيين، فمن الجزائر طه العامري، ومحمد أدار، وعمر معيوف، ومن الأردن حاتم السيد، ومن العراق قاسم المطرود وفاطمة الربيعي، ومن سورية فرحان بلبل، ومن لبنان جان داوود، ومن المغرب محمد بدري. وهذه اللجنة تمنح عشر جوائز تذهب لأفضل عمل مسرحي، وأفضل نص أصلي، وأفضل إخراج، وأربع جوائز للتمثيل، وجائزة للسينوغرافيا، وأخرى للموسيقى، إضافة إلى جائزة لجنة التحكيم الخاصة. وتتنوع المسرحيات من ناحية الشكل الفني، والأسلوب، ومن ناحية المضامين التي تتشعب، تبعاً لتشعب الأسئلة الممتدة من العراق، كأن تطرح العراقية عواطف نعيم في عرضها المسرحي «دائرة العشق البغدادية» هموم العراق وشجونه في ظل المحنة التي لم يخرج منها بعد، ساعية إلى تصوير عناد المثقف العراقي في إنتاج الفنون والإبداع على رغم الظروف القاهرة. وتعود مسرحية «مزغنة 95» للمخرج يحيى بن عمار إلى ماضي العاصمة الجزائر (التي كانت تعرف تاريخياً باسم «مزغنة»)، عبر زيارة افتراضية يقوم بها حفيد الكاتب الاسباني سرفانتس الذي سحرته هذه المدينة ذات يوم، فأراد الحفيد اقتفاء اثر جده. وتتناول مسرحية «موعد مع...؟» لعلي عبدون عبثية العلاقات البشرية عبر شكل تعبيري مؤثر تخوض في مجاهل النفس، والرغبات المتأججة فيها. ولا يبتعد عرض «حب عن بعد» للمخرج جيلالي بوجمعة، المقتبس عن رواية لأمين معلوف، عن هذه الأجواء، فهو، بدوره، يقدم قراءة رمزية للحب محاولاً الاقتراب من عوالم النفس الإنسانية عبر الجسد والصورة في فن المسرح الحديث. ويذهب العرض المغربي «كيف طوير طار» للمخرج حسن هموش إلى رصد المعاناة الإنسانية التي تتجاوز ثنائية الفقر والغنى، لتكون، في الأساس، معضلة وجودية، مثلما يفعل السوري مانويل جيجي في عرضه «دونكيشوت» الذي يرصد عجز الإنسان، وإخفاقاته على رغم الطموح الحارق نحو حياة أفضل. وفي حين قدم العرض الكوريغرافي (رقص درامي) القادم من السويد تجليات المرأة في الحالات الثلاث (الجنس، الولادة، الأمومة) موظفاً أساطير الشعوب التي تخلد مكانة المرأة كرمز للخصوبة والعطاء، فإن العرض التونسي «حر الظلام» لمنيرة الزكراوي يعاين غربة امرأة تسعى إلى التصالح مع واقعها لكنها تتعثر وسط ظروف الإحباط واليأس. وفي هذه الدورة الرابعة المهداة إلى القدس، لا تغيب، بالطبع، العروض التي تتناول القضية الفلسطينية من زوايا مختلفة، فالعرض الجزائري «الصدمة» للمخرج أحمد خودي، المقتبس عن رواية لياسمينة خضرة، يحاول إيجاد المبررات لعمليات التفجير الانتحارية التي تقع داخل إسرائيل، عبر الحديث عن المعاناة القاسية التي يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال والحصار والتجويع. والأمر ذاته ينطبق على المونودراما السورية «بيان شخصي» للمخرج جهاد سعد الذي يسهب خلالها الفنان عبدالرحمن أبو القاسم في مونولوغ طويل يظهر العطب الذي ينخر داخل الإنسان الفلسطيني، وهو يعيش تراجيديا لا تنتهي منذ أكثر من نصف قرن. وهذا التاريخ الطويل بحروبه ومعاركه الدامية ومنعطفاته الحادة، هو الموضوع الذي يتكئ عليه العرض المسرحي الفلسطيني «العشاء الأخير في فلسطين» لفرقة مسرح عشتار، الذي يروي تفاصيل الواقع الفلسطيني منذ النكبة حتى اللحظة الراهنة، عبر شكل تجريبي يمزج، في شكل مدروس، بين الكوميديا والتراجيديا، ويستعين بالرقصات التعبيرية والشعبية وبالأغنية والأناشيد المغلفة بالمأساة، لينتهي بتفاؤل يومئ إلى الأمل في نهاية النفق الطويل. ولم ينسَ منظمو المهرجان أن يخصصوا فضاء للشعر، عبر أمسيتين مكرستين لقراءات شعرية لعدد من الشعراء، في محاولة لردم الهوة كما يقول المنظمون «بين المسرح وبقية الفنون، حيث تقف القصيدة في حضرة المسرح الذي يرحب بها، وينتظر أن تغذيه بجمالها وخيالها»، وآثر المنظمون، تناغماً مع هوية هذه الدورة، تخصيص ليلة شعرية للتذكير بالشاعرة فدوى طوقان، وليلة ثانية للتذكير بالشاعر ممدوح عدوان، وهما شاعران طالما تناولا في قصائدهما هموم القضية الفلسطينية، والى جانب كل ذلك ثمة ورشات عمل تتضمن النقد المسرحي، والكتابة المسرحية، وتكوين الممثل ويديرها عدد من المسرحيين، بينهم الناقدة والباحثة المسرحية الأردنية مجد القصص، والباحثة المسرحية اللبنانية وطفاء حمادي، والمخرج المسرحي السوري فرحان بلبل.