- 1 - سألتُ دافيد غروسمان، في سجال دار بيننا في القدس، قبل تسع سنوات، ونُشر حينها في"الكرمل": ماذا يريد الإسرائيليون؟ قال: الحب. ويبدو أن بعضهم، على الأقل، عثروا في الكاتب العراقي نجم والي، شخصاً ونصاً، على مصدر لإشباع حاجة عاطفية كهذه. لم تغب هذه المفارقة عن ذهن الوزير الإسرائيلي السابق يوسي سريد، في مناسبة صدور الترجمة العبرية لكتاب نشره السيد والي في وقت سابق باللغة الألمانية بعنوان"رحلة إلى قلب العدو"، تكلّم فيه عمّا أثارته ثلاث زيارات لإسرائيل من انطباعات وتداعيات في نفسه. أشار سريد في مراجعة بعنوان"أسوأ من التحريف"نشرها في"هآرتس"قبل أيام، إلى أن الخلاصة المبهجة لهذا الكتاب تتمثل في حقيقة:"أن والي يقع في هوى إسرائيل وفي حبنا نحن الإسرائيليين، وهي حقيقة تنطوي على إطراء وترفع المعنويات". المعروف عن سريد، إلى جانب نشاطه في الحقل السياسي، أنه كاتب بليغ، وخطيب بارع. ومن الواضح أن هاتين الصفتين حضرتا في المراجعة، بطريقة لا تخلو من القسوة والتندر، إذ يلاحظ إعجاب والي بكل من قابلهم من الإسرائيليين"من سائقي التاكسي إلى الأكاديميين". ومن النادر، في رأيه، أن يعثر الإنسان على شخص كهذا يفيض بالنيات الحسنة، والإرادة الطيبّة إلى حد الكلام عن الواقع الإسرائيلي من دون أدنى إشارة إلى ما تركه احتلال بدأ منذ 41 عاماً من أثر في الإسرائيليين"فلا وجود للاحتلال في الكتاب". يلاحظ سريد، أيضاً، انزعاج والي من المثقفين العرب، الذين يشتغلون خدماً لحكام طغاة، وأبواقاً لأسيادهم. لكن طريقة والي في الكلام على مجتمع عربي بلا تمايزات ولا ملامح توحي لسريد بأن الكاتب لم يذكر هذا الجانب إلا للتركيز على"احتكاره لإسرائيل"باعتباره ظاهرة استثنائية، وبلا مثيل. وفي هذا السياق يصب والي جام غضبه على إدوارد سعيد"الذي يتاجر بالسلام ويحصد الجوائز"، وحتى على شريكه في مشروع الديوان الشرقي - الغربي، الموسيقي المعروف دانيال برنباوم، الذي يحرمه من المواطنة الإسرائيلية فيصفه ب"اليهودي الأرجنتيني"، على رغم تعريف الأخير لنفسه كمواطن إسرائيلي. وفي النهاية يخلص سريد إلى القول إن"والي لم يعرف إسرائيل بالفعل خلال الأسابيع القليلة التي قضاها بيننا"، فإسرائيل التي كتب عنها"كائن سماوي"، وعلى رغم حقيقة أن الزائر العابر يرى العيوب كلها، إلا أن والي"فعل العكس، لم ير شيئاً يعيبنا". ومع ذلك، والكلام لسريد، فإن والي زائر وضيف يلقى الترحيب في إسرائيل، وربما يتعلّم في الزيارات المقبلة"وينقّب تحت الواجهة السياحية لبلدنا". - 2 - رد السيد نجم والي على مراجعة يوسي سريد بمقالة في"الحياة"يوم الخميس 16 نيسان - ابريل الجاري بعنوان"في ما خص زيارتي إسرائيل وضجيجها"جاء في ذيل المقالة أنها تُنشر بالتزامن مع"دي تسايت"الألمانية، ولكنني لم أعثر عليها في الجريدة المذكورة التي تصدر يوم الخميس من كل أسبوع. وقد ارتكب والي خطأين في الجملة الافتتاحية الأولى عندما أورد عبارة من مقالة سريد على النحو الآتي:"غريب أن نلتقي بشخص مثل والي، مملوء بالنيات الطيبة. كيف يمكننا التحفظ عن شخص كهذا وكاتب كهذا؟"، والصحيح أن نص الجملة، كما وردت في مقالة سريد:"من النادر أن يلتقي الإنسان بشخص مثل والي، ملئ بالنيات والإرادة الطيبة، لذا كيف يمكن أن يعبّر المرء حتى عن أدنى نقد لشخص كهذا، ولكتاب كهذا". والخطأ الثاني أن سريد، الذي أصاب والي عندما وصفه بوزير المعارف السابق، ليس رئيساً لحزب"ميرتس"، فقد تنحي عن رئاسة الحزب، وترك العمل السياسي، منذ ثلاث سنوات. هذه أخطاء هامشية، بطبيعة الحال، لكن الموقف من التفاصيل الصغيرة في الكتابة يسهم في خلق انطباعات معيّنة لدى القارئ. وهي انطباعات يزداد مردودها السلبي مع كل خطوة إضافية يخطوها السيد والي في تفسير السياق الذي تبلورت بفضله قناعته الشخصية في شأن صورة إسرائيل. وهو يفصلها على النحو الآتي: 1- في زيارته الأولى تكوّنت لديه انطباعات"إيجابية"، 2- تأكدت تلك الانطباعات بفضل ما ناله الكتاب من اهتمام واحتفاء في إسرائيل منذ صدوره باللغة العبرية، 3- وتعززت في الزيارة الثانية من خلال ما أبداه محاوروه الإسرائيليون من امتنان عميق لأنه ذكّرهم بأمور غابت عنهم منذ زمن بعيد، وتمكنوا من استعادتها بعد قراءة الكتاب. ما هي الأمور التي غابت عن الإسرائيليين، والتي"نقلها لي أولئك الذين التقيت بهم سواء في زيارتي الأولى أم في الثانية: تلك الصورة التي تبدو لمن لم يعشها هناك مثلي أقرب الى"الفيكشن". وعلى رغم أن الكلام عن صورة أقرب إلى"الفيكشن"لا يسهم في تفسير المقصود بالصورة ولا أعرف لماذا يستخدم الكاتب كلمة فيكشن، ومعناها رواية من نسج الخيال، في مقالة باللغة العربية طالما أن ثمة ما يرادفها في اللغة العربية، إلا أننا نعثر عليه، بعد استطراد طويل في هجاء الأنظمة العربية، عندما يصل الكاتب إلى"أمور غابت حتى على الإسرائيليين أنفسهم"، لكنه ساعدهم على اكتشافها، وهي"رغباتهم الطيّبة الدفينة كما أراد لها المؤسسون الأوائل للدولة العبرية". إذاً، عثرنا أخيراً على معنى"الفيكشن". وهي بكلمات والي:"صورة تقترب من اليوتوبيا حقيقة، لكنها أيضاً الصورة التي شحبت أو اختفت ملامحها بعد ستين عاماً من المواجهات والحروب، الصورة التي محتها عسكرة المجتمع الإسرائيلي اللاحقة التي جلبها معه احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية بعد 5 حزيران يونيو 1967، والتي يريد أن ينقض عليها الآن تماماً نتانياهو وليبرمان". - 3 - في ضوء هذا الكلام نفهم لماذا استخدم سريد ما في جعبته من بلاغة، وبراعة خطابية، في التعليق على الكتاب. فهو، أي سريد، يعرف بالتأكيد عن تاريخ الدولة والمجتمع الإسرائيليين أكثر بقليل من السيد والي، فقد اشتغل مساعداً إعلامياً لليفي اشكول، وترعرع في حضن بنحاس سابير وهما اسمان كبيران في تاريخ إسرائيل ومن جيل المؤسسين الأوائل ناهيك عن فوزه بمقعد في الكنيست منذ العام 1973. ومع ذلك، فلنضع سريد جانباً. فقد وصفه والي باليساري، وفسّر موقفه السلبي بخيبة الأمل في مواطنيه الذين لم يصوتوا بالقدر الكافي لحزبه. ولنفكر، مثلاً، في أشخاص لا ينتمون إلى اليسار، بل يمثلون التيار الرئيس في المجتمع بالمعنى السياسي والثقافي، وهم في حالات كثيرة أقرب إلى اليمين، لكنهم يعبّرون عن تحفظات أساسية في شأن القيم الأخلاقية والسياسية السائدة في إسرائيل، ويعزونها وهنا بيت القصيد إلى ما انطوت عليه اليوتوبيا القديمة، أي"الفيكشن"من خداع. ففي الصيف الماضي نشبت في الأوساط الثقافية والأكاديمية الإسرائيلية زوبعة صغيرة عندما نشر عسّاف سغيف، محرر مجلة"آزور"، مقالة افتتاحية بعنوان"تركة الصابرا الخارج على القانون". الصابرا، في الأدب السياسي، والمرافعات الأيديولوجية والثقافية في إسرائيل حتى وقت قريب، درّة الخطاب، ونرجس اليوتوبيا، وأهم الأبقار المقدسة في حظيرة"الفيكشن". أما خلاصة سغيف فهي على النحو الآتي: الفساد، وعدم احترام القانون، واستغلال الوظائف والنفوذ، مظاهر قديمة في إسرائيل قدم المجتمع الإسرائيلي نفسه، وهي تعود في جانب منها إلى ثقافة اليهود في أوروبا الشرقية، أي المنطقة التي جاء منها المستوطنون الأوائل إلى فلسطين. أما المسؤولية فتقع على عاتق الآباء المؤسسين"فبعض التفاحات الفاسدة التي زرعها الآباء المؤسسون أفسدت البرميل كله"، بحسب تعبيره. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالصابرا، والكلام لسغيف، كان المطلوب منه أن يكون نقيضاً ليهودي الدياسبورا، الموصوف بالجبن والضعف والطاعة. لذا، أراد الآباء المؤسسون للصابرا أن يكون نموذجاً للمتوحش النبيل. استناداً إلى هذه القيم نشأ شباب المجتمع اليهودي في فلسطين قبل قيام الدولة على قيم الإقدام والعزم، ولكن أيضاً على قيم إلحاق الأذى بالآخرين، وانتهاك القانون، وسرقة الماشية، والمزارع، والسطو على الحقول، وسرقة المعدّات من المكاتب، وقواعد الجيش. والملاحظ، وما زال الكلام لسغيف أن أحداً لم يُدن تلك الأعمال، بل تم الاحتفاء بها لتتحول إلى أسطورة، وإلى نوع من الفلكلور القومي. ولعل ما أحجم سغيف عن قوله، وما لا يصعب تخمينه، أن الفلسطينيين كانوا في معظم الأحيان الضحية المثالية لأعمال إلحاق الأذى والسطو والسرقة، والقتل والطرد كما حدث في حرب العام 1949. هذه بعض مكوّنات اليوتوبيا، أو"الفيكشن"، كما يتكلّم عنها الإسرائيليون أنفسهم. والسؤال، هنا، كيف لم يصل بعضها إلى مسامع السيد والي، وما هي، الضبط، الأشياء التي ساعدهم على اكتشافها، والرغبات الطيبة التي أرادها الآباء المؤسسون؟ فلنضع سغيف جانباً، أيضاً. في كلام السيد والي عن الفيكشن، وما أراده الآباء المؤسسون ما يعيد التذكير باتجاه لدى بعض الأوساط في إسرائيل لإلقاء تبعة ما طرأ على المجتمع الإسرائيلي من تحوّلات سلبية في العقود الأربعة الماضية على عاتق الاحتلال. وهي الرواية التي يتماهى معها السيد والي نفسه في كلامه عن"الصورة التي محتها عسكرة المجتمع الإسرائيلي اللاحقة التي جلبها معه احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية بعد 5 حزيران 1967". والمدهش في الأمر أنه يتماهى مع الاتجاه المذكور، لكنه يتحاشى الكلام عن السلبيات، حتى تلك التي جلبها الاحتلال. ومع ذلك، هذا اتجاه مضلل، في الواقع، بشهادة علماء الاجتماع الإسرائيليين من أمثال غيرشون شافير الذي درس مبررات انفصال سوق العمل اليهودية عن سوق العمل الفلسطيني في فلسطين الانتدابية وزئيف شتبرنهال الذي حلل مكوّنات الأيديولوجيا العمالية، والمرافعات الأيديولوجية عن الكيبوتس باعتباره محاولة لإنشاء يوتوبيا اشتراكية. فلنضع كل هؤلاء جانباً، مرّة أخرى، ولنصوّب أنظارنا في اتجاه ثيمة أساسية في الأدب الإسرائيلي، لا يمكن مهتماً بالأمر عدم الاطلاع عليها، وهي ما يسمى بالعبرية هعكيدا، أو وثاق اسحق، وما يتجلى في ما لا يحصى من الأعمال الأدبية من خلال الصراع ما بين الآباء والأبناء. الصراع الذي نعثر في تجلياته المجازية على محاولة للخروج من أسر الآباء المؤسسين وأسارهم. - 4 - المقصود من كل النماذج السابقة القول إن كلام السيد والي عن اليوتوبيا، وعن جيل الآباء المؤسسين، يبدو أقرب إلى"الفيكشن"الشخصي منه إلى الواقع. وهذا على أية حال شأنه الخاص. أما الشأن العام وما يتعلّق منه بمسألة الحقيقة والعلاقة بالواقع فهذا ما يبرر الرد عليه. معرفة الآخر ضرورية، بالتأكيد، لكن ما يطالعنا به السيد والي يندرج في باب ما يسمى بالعبرية الهاسبرا، وهي تنطوي، ناهيك عن تاريخها الطويل، على دلالات كثيرة ليست المعرفة، للأسف، من بينها. * كاتب فلسطيني، مدير تحرير مجلة"الكرمل". نشر في العدد: 16823 ت.م: 26-04-2009 ص: 25 ط: الرياض