نشرت "الحياة" صفحة "أفكار" في 20/10/1999 مقالة للسيد زياد منى عنوانها "عندما تستحيل الترجمة تأليفاً" خصصها لنقد ترجمتي لكتاب "اختلاق اسرائيل القديمة إسكات التاريخ الفلسطيني" لمؤلفه كيث وايتلام. ووجدت لزاماً عليّ سرد بعض الحقائق رداً على المقالة ونظراً الى أن الكاتب جانبه الصواب وقام بتضليل القارئ عن عمد، فجاءت كتابته بعيدة عن الأسلوب العلمي الموضوعي. إن قراءة سريعة لتلك المقالة توحي للقارئ للوهلة الأولى بأن السيد زياد منى قد بذل جهداً كبيراً في قراءة الترجمة ليستنتج بعد ذلك أنها تحولت تأليفاً. إلا أن قراءة متأنية تبين ما يلي: أولاً: خصص الكاتب حوالى نصف مقالته لنقد مصطلح واحد فقط هو Biblical Scholars واسمين هما Judaea وIsraelite اختلف معي في ترجمتها وسأتناول هذه المسألة بالتعليق والايضاح بعد قليل. ثانياً: خصص الجزء الآخر من مقالته لنقد ما جاء في مقدمتي للترجمة والهوامش الايضاحية التي ذيلت بها بعض صفحات الكتاب. وبناء على ذلك انتهى الى تعميم لا أساس له حيث قال انه "لن يرهق القارئ طويلاً باستعراض كل الاغلاط التي ارتكبتها المترجمة ليس في مقدمتها "التنويرية" فحسب، وانما أيضاً في تعليقاتها المتناثرة حيث نعتقد أننا قدمنا ما يكفي من الأمثلة على ذلك". ولكنه في حقيقة الأمر لم يقدم أية أمثلة حقيقية تبرر حكمه الجائر. وحيث أن السيد منى اهتم اهتماماً شديداً بهذه المقدمة وبتلك الهوامش وقد أفرد لها مساحة واسعة، لذلك فإني سأوضح للقارئ بعض الحقائق حول هذا الكتاب، نظراً الى أنني عملت سنوات طويلة من 1986 حتى آخر 1998 في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، وهو مؤسسة غير ربحية وذلك مديرة تحرير "سلسلة عالم المعرفة" التي أصدرت الكتاب. وسلسلة "عالم المعرفة" التي تصدر كتاباً جديداً في مطلع كل شهر تأليفاً وترجمة تخاطب القارئ المثقف العام غير المتخصص، وكان هذا الكتاب بالذات أشد تخصصاً من الكتب التي تقوم السلسلة عادة باصدارها، إلا أنه نظراً لخطورة الموضوع الذي يعالجه الكتاب، ولأن معركتنا مع الصهيونية اليوم هي معركة ثقافية وحضارية في المقام الأول، فقد رأى المسؤولون في المجلس ضرورة نقل الكتاب الى العربية على الرغم من صعوبته. وتبين لهيئة تحرير "سلسلة عالم المعرفة" ان كتاب كيث وايتلام يحقق تماماً الأهداف التي يتوخاها المجلس في اختياره الكتب وهي نشر الأفكار الأصيلة على أوسع نطاق بين المثقفين العرب. فالكتاب يعبّر عن موقف شجاع من المؤلف الذي تحدى التزييف الصهيوني للتاريخ القديم للمنطقة، وتمكن هذا العالم الفذ بالفعل من رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني وهذا ما لم يفعله أي من الباحثين الغربيين أو العرب من قبل، ولا يسعنا إلا أن نشكر دار النشر روتدلدج Routledge لشجاعتها في نشر مثل هذا الكتاب الذي يعد فتحاً جديداً في ميدانه. لهذه الأسباب اعتبر ان كتابة مقدمة أمر ضروري لإيضاح بعض جوانب الغموض في الكتاب الذي يتسم في مواضع كثيرة منه بالتخصص الشديد. ولكن السيد زياد منى أظهر في مقالته غيظاً شديداً من المقدمة، وأغلب الظن ان هذا الغيظ راجع الى أنه لم يتمكن من أن يقوم بجهد مماثل في ترجمته التي لم نعرف عنها شيئاً حتى الآن. يقول السيد زياد منى في هجومه على مقدمتي للكتاب ان "الأمر الأكثر خطورة" هو أنني استعنت بالخطاب التوراتي عند استعراض تاريخ فلسطين القديم. وهنا لا بد من وقفة: لأن هذا الموضوع في الحقيقة ذو شقين، الشق الأول هو المفردات الكثيرة التي وردت في الكتاب وكانت في حاجة الى شرح، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد في الكتاب مفردات مثل: منسى، حالوتسيم، بنيامين، زبولون، نفتالي، حوريب، هدد عزر، بيت ايل، ناحاش، حازور، جبعة، قادش، مصفاة، مسادة، حويون، شيلوه، غيلوه، يساكر وغيرها العشرات. وفيما تمكنت من الاستعانة ب"موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" للدكتور عبدالوهاب المسيري وكذلك موسوعته الجديدة بعنوان "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد" التي صدرت في 1999. وحينما لم أجد مثل هذه التفسيرات في هاتين الموسوعتين، فكان لا بد أن أستعين بالقواميس المتخصصة، وبديهي أن تكون قواميس مكتوبة من منظور يهودي لأنها ببساطة شديدة تعالج موضوعاً يهودياً. لذلك: حذرت القارئ في مقدمتي للكتاب عندما قلت انه وردت في الكتاب مصطلحات وأسماء للعديد من الأماكن التي لم استطع أن أجد توضيحاً لها إلا من خلال رجوعي الى قواميس مثل "قاموس الكتاب المقدس" وغيرها من القواميس المكتوبة من منظور أجنبي أو يهودي، وقلت في الصفحة 21 في المقدمة "اني أهيب بالقارئ ألا يأخذ كل ما جاء في هذه التفسيرات على علاته، بل أن يكون يقظاً حذراً. فالعديد من الأسماء التي تعتبر عبرية أو اسرائيلية كانت أسماء كنعانية قبل قدوم العبرانيين وقد انتقلت اليهم، وربما دخل عليها بعض التحوير، لكنها في الأصل أسماء كنعانية أو سامية كانت موجودة قبل وجود العبرانيين بكثير". أما الشق الثاني فيتعلق بجوهر الكتاب، وهي الفكرة التي كان أجدى بالسيد زياد منى التركيز عليها لإبراز أهمية وخطورة الموضوع الذي يعالجه الكتاب. فالفكرة الجوهرية من الكتاب برمته هي إظهار أنه لم يؤرَّخ حتى الآن لحضارة فلسطين القديمة وبطبيعة الحال يعني هذا أن المفردات غير موجودة، وهذا ما يدعو اليه مؤلف الكتاب من أوله لآخره لأن خطاب الدراسات التوراتية منع هذا التاريخ من الظهور ومن التعبير عن نفسه، وان وجد تاريخ فلسطيني قديم، فهو كما يوضح المؤلف لا يعدو أن يكون محصوراً في كليات الدين واللاهوت في الجامعات الغربية. لذلك أوضح المؤلف نفسه في مقدمته أن عمله بدأ كجزء من مشروع ضخم لاصدار جزأين عن تاريخ فلسطين القديم، وسرعان ما تبين له أن مشروعه هذا محكوم بالفشل. لذلك فإنه لا يعتبر كتابه هذا تاريخاً لفلسطين القديم كما كان يحب أن يكون وانما هو، كما يقول في الصفحة 26 "محاولة لإيضاح فكرة وهي: الفكرة القائلة ان تاريخ فلسطين القديم موضوع قائم بذاته يحتاج الى التحرر من قبضة الدراسات التوراتية"، ويبين وايتلام كيف وضعت الدراسات التوراتية العقبات والعراقيل أمام انجاز هذا التاريخ. وإذا أخذنا مصطلحاً واحداً من المصطلحات والأسماء التي يعج بها الكتاب، مثل كلمة "الفلستيون"، نجد أنه حتى المؤلف نفسه ليست لديه اجابات شافية، ولو كان تمكّن من كتابة الكتاب الذي يود أن يكتبه لربما عرفنا من كان هؤلاء الفلستيون الذين جاء ذكرهم في التوراة في الدرجة الأولى باعتبارهم أشد أعداء العبرانيين. ولا يوجد حتى الآن أية معلومات وافية وشافية عن أصل هذا الشعب لسبب واضح هو أن هذا التاريخ لم يُكتب بعد من منظور فلسطيني، وهو الأمر الذي يدعو إليه وايتلام في كتابه. لذلك، حاولت في المقدمة ص 17 - 20 التوضيح بقدر استطاعتي ما المقصود من "فلستيين"، وذكرت في الهامش 5 من الصفحة 19 المصادر التي استندت اليها، وهي "بلادنا فلسطين" لمصطفى مراد الدباغ، و"موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، نموذج تفسيري جديد" للدكتور عبدالوهاب المسيري. إلا أن السيد منى تجاهل الاشارة الى هذين المصدرين المذكورين في أسفل صفحة 19. بل انه أصرّ على القول إن المترجمة "ارتكبت في هذه الجملة القصيرة مجموعة غير معقولة من الأغلاط..." مضيفاً انه لا يعلم من أين حصلت على هذه المعلومات. علماً بأنه بالاضافة الى الشرح الذي أوردته في المقدمة عن أصول هؤلاء الفلستيين فقد أوضحت أيضاً في أحد هوامش الكتاب في الصفحة 321 حينما ذكرت انه: "بالنسبة للروايات التوراتية، فإن تعبير الشعوب البحرية Sea People تعني الفلستيين، لكن الأصول التاريخية لهذه الشعوب تظل غير واضحة وغير مثبتة تاريخياً". لقد بيّنت في بداية هذه المقالة، أن السيد زياد منى بنى حكمه على الترجمة بناء على اختلافه معي على ترجمة مصطلح واحد هو Biblical Scholars واسمين هما Judaea وIsraelitc وأقام الدنيا على هذه الكلمات الثلاث واستخلص استنتاجات مسرفة بالقول إن الترجمة تحولت الى تأليف، وهذا دليل الى سوء النية المبيتة. فالترجمة توصف أحياناً بأنها تأليف عندما يخرج المترجم عن النص الأصلي ويكتب بأسلوبه الخاص غير متقيد بالأصل. أما الاختلاف على ترجمة مصطلحات فلا يمكن أن يجعل الترجمة تأليفاً، أو يجعل من رأي أحد الأطراف الكلمة النهائية في شأن ترجمة ذلك المصطلح. فمثلاً عندما اقترح السيد زياد منى ترجمة مصطلح Biblical Scholars "بالكتابيين"، نسبة الى "الكتاب المقدس"، كان على حق، لكن ذلك لا يعني اطلاقاً أن ترجمتي لها "بالعلماء التوراتيين" خطأ، بل انها من وجهة نظري أكثر دقة. فمن البديهي أن التوراة العبرية Hebrew Bible كما تقول الموسوعة البريطانية، هي ركيزة أساسية للدين المسيحي تماماً كما هي بالنسبة للدين اليهودي، ومن دون العهد القديم، لا يمكن أن يكون هناك عهد جديد. وبدون اليهودية لا يمكن أن تكون هناك مسيحية. وإذا كان الكتاب المقدس وهو بحدود 1000 صفحة، مكوناً من العهد القديم التوراة والعهد الجديد الانجيل، فإن العهد القديم يشكل 80 في المئة منه والعهد الجديد يشكل ال20 في المئة الباقية. أما العهد القديم فيحتوي على أسفار اليهود المعروفة لديهم ب"تناخ" وهي اختصار "توراة"، و"نقييم" أنبياء و"كتوفيم" كتابات. والعهد الجديد يتضمن بشكل أساسي تعاليم السيد المسيح. ولما كانت جميع القصص حول مملكة اسرائيل القديمة وهي المقصودة في هذا الكتاب متضمنة في العهد القديم وحسب، فمن الطبيعي أن نشير الى التوراة كلما جاء ذكر الكتاب المقدس. من ناحية أخرى فإن قاموس أكسفورد يعرف العهد القديم Old Testament على النحو التالي: "هو الأسفار ال39 الأولى من الكتاب المقدس التي تشكل الأسفار المقدسة عند اليهود ومعظمها كتب بالعبرية وبعضها بالآرامية، وقد صنفها اليهود الى 3 فئات تناخ". خلاصة القول انه ليست هناك اختلافات تذكر بين "العهد القديم" في الكتاب المقدس والتوراة العبرية Hebrew Bible، وعندما يشير مؤلف الكتاب الى التوراة العبرية Hebrew Bible فهو يقصد التوراة بلغتها العبرية ولا يقصد أكثر من ذلك. والفرق بين التوراة العبرية والعهد القديم في الكتاب المقدس في اللغات الأخرى الانكليزية والألمانية وغيرها هو أن عدد أسفار التوراة العبرية 24 سفراً، أما العهد القديم في "الكتاب المقدس" فيحتوي على 39 سفراً، وسبب ذلك يعود الى تجزئة أسفار "صموئيل" و"الملوك" و"أخبار الأيام" وكذلك تعداد أسفار عزرا ونحميا وأسفار الأسباط الاثني عشر باعتبارها أسفاراً منقصلة. إذن ترجمة مصطلح Biblical Scholars ب"العلماء التوراتيين" ترجمة صحيحة بلا شك، فالعهد القديم أي التوراة يشكل الجزء الأكبر من "الكتاب المقدس". وهو يحتوي، كما تقول الموسوعة البريطانية، على الأجزاء التي حُفظت "باعتبارها الكتب المقدسة للشعب العبري القديم". بل ان الموسوعة البريطانية نفسها عندما نعرِّف العهد القديم Old Testament، فإنها تشير اليه أيضاً بوصفه التوراة Torah. اضافة الى ذلك يعرِّف الدكتور عبدالوهاب المسيري في "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" في الصفحة 308 "الكتاب المقدس" على النحو التالي: "عبارة تستخدم عند المسيحيين للاشارة للانجيل بشقيه العهد القديم والعهد الجديد. أما في الدراسات اليهودية والصهيونية فهي تشير الى العهد القديم وحسب، ولذا فقد يكون من المفيد الا نستخدم هذا المصطلح على الاطلاق أي الكتاب المقدس نظراً لغموضه ونستخدم بدلاً منه اصطلاحات مثل العهد القديم أو التناخ". ليس هناك شك في أن الخطاب التوراتي الذي عالجه هذا الكتاب هو خطاب صهيوني، انبثق أساساً من التراث الديني البروتستانتي في المانيا وأميركا وبريطانيا وغيرها من دول الشمال الأوروبي، وذلك لسبب وثيق الصلة بتراث حركة الاصلاح الديني منذ القرن السادس عشر التي ركزت على الأصول اليهودية للدين المسيحي. ومن هنا نفهم نشوء ما يدعى بالصهيونية غير اليهودية، حتى أن أول مستعمرة أسست في فلسطين كانت تلك التي أسسها أعضاء جمعية التمبلار Templar الألمانية البروتستانتية منذ سنة 1868، وقد سبقت المستعمرات الصهيونية التي أقامتها جمعيات "أحباء صهيون" Hovevi Zion الروسية منذ سنة 1882. أما بالنسبة الى الأسمين الآخرين اللذين اختلف معي السيد زياد منى في ترجمتهما، وأولهما هو Israelite فيقول السيد منى انه اقترح "اطلاق اسم اسرائيل في رسمه القرآني على سكان مملكة بني اسرائيل القديمة تمييزاً لها عن الكيان الصهيوني". قطعاً لا يمكن إقحام وزج معاني قرآنية عن بني اسرائيل بهذا الشكل العشوائي. بديهي ان "بني اسرائيل" في القرآن لها معانٍ محددة تختلف عن المعاني المستوحاة من العهد القديم. فهل يجوز للمترجم التصرف في الترجمة بهذا الشكل واقحام معاني قرآنية لم تخطر على بال المؤلف اطلاقاً؟ من الأفضل ترك ترجمة دولة اسرائيل الحديثة على ما هو أي Israel، لا سيما أن المؤلف نفسه يستخدم لفظ اسرائيل Israel للدلالة على اسرائيل الحديثة وأيضاً القديمة وليس هناك أي مجال للخلط كما يدّعي السيد زياد منى. والمؤلف لم يستخدم تعبيراً مثل "الكيان الصهيوني" ولو أراد ذلك لفعل، لكنه لم يفعل. وفي معرض "نقده" لترجمتي، يقول السيد منى ان "اضافة الصفة القديمة الى اسرائيل لا بد أن يخلق لدى القارئ انطباعاً بأن الكيان الصهيوني استمرار للتاريخ الاسرائيلي القديم". هذه الحجة مردود عليها فضلاً عن أن هذه تعبيرات المؤلف نفسه التي ينبغي ايرادها كما هي دون تحريف. وقد ركّزت في الصفحة الأولى من المقدمة على الفكرة الجوهرية للكتاب، حينما قلت ان خطاب الدراسات التوراتية متورط في عملية تجريد الفلسطينيين من ماضيهم، وذلك من خلال بحثه المتواصل عن اسرائيل القديمة وتكراره لعدد من الادعاءات الزائفة التي تربط الماضي بالحاضر، وتجاهله المعلومات الأثرية الجديدة التي تعطي صوتاً للتاريخ الفلسطيني. وفي الصفحة 8 قلت حرفياً ان "الاحساس بالماضي مرتبط تماماً، كما يرى مؤلف الكتاب بالهوية السياسية والاجتماعية في الحاضر. وخطاب الدراسات التوراتية طالب ولا يزال يطالب بهذا الماضي لمصلحة اسرائيل. والفكرة الجوهرية التي تركز عليها الدراسات التوراتية هي اعتبار "مملكة اسرائيل القديمة" حقيقة تاريخية لا جدال فيها، ومن ثم التأكيد على وجود استمرارية تاريخية "مباشرة" بين مملكة اسرائيل القديمة في بداية العصر الحديدي وبين دولة اسرائيل الحديثة. ولا يقتصر الأمر على تأكيد هذه الاستمرارية التاريخية بل أن الدراسات التوراتية تؤكد التوازي بين التاريخين بحيث توظف أحداث التاريخ القديم في خدمة الأطماع السياسية الصهيونية المعاصرة الخ...". ثم تابعت فذكرت في الصفحة 9: "يرى وايتلام ان الفلسطينيين اذا لم يتمكنوا من استعادة تاريخهم القديم في الماضي البعيد وليس فقط التاريخ الحديث من قبضة الدراسات التوراتية فلن يتمكنوا من إسماع صوتهم واستعادة حقهم وتاريخهم. لقد اختلق هؤلاء الباحثون التوراتيون كياناً يدعى "اسرائيل القديمة" وصوّروها على أنها قوة عظمى أو حتى امبراطورية، وهذه الأفكار لها دوافع سياسية واضحة في الحاضر". ثم أوضحت في الصفحة 13-14 ان الصهيونية اعتبرت توفير المناخ الملائم للعمل في مجال الآثار والتنقيب أمراً بالغ الأهمية، ومن هنا تضمن صك الانتداب على فلسطين مادة تنص على أن حكومة الانتداب سوف تؤمن اصدار قانون الآثار Law of Antiqities، وكانت هذه المادة وهي المادة 21 من صك الانتداب لا تقل أهمية عن المادة الثانية منه التي تنص على أن حكومة الانتداب سوف تهيئ "الظروف السياسية والادارية والاقتصادية التي تؤدي الى انشاء وطن قومي لليهود... الخ". وكذلك ألقيت ضوءاً في مقدمتي للكتاب على نقطة في غاية الأهمية وهي أن اشارة صك الانتداب الى "الرابط التاريخي" historical connection بين اليهود المشتتين في العالم وأرض آبائهم كما سموها، كان أكبر نصر في مطلع القرن العشرين للصهيونية ولزعيمها حاييم وايزمان، الذي أصرّ على أن يتضمن صك الانتداب مثل هذه الاشارة إيماناً منه بأن التركيز على الجانب "التاريخي" هو شرط أساسي لنجاح المشروع الصهيوني ولضمان "عودة" اليهود الى "أرض أجدادهم" كما سموها، فكثيراً ما كان وايزمان يردد: "نحن لسنا بقادمين، لكننا عائدون" We are not coming but returning، وفي هذا من الوضوح ما يكفي للرد على ما ادعاه السيد زياد منى أن ترجمتي قد تقود القارئ الى الاعتقاد بوجود استمرارية تاريخية بين اسرائيل القديمة والحديثة. أما الاسم الثاني الذي اختلف معي السيد منى في ترجمته فهو Judaea. حيث قال انه "يهوذا" بينما ترجمته أنا ب"يهودا". تُكتب هذه الكلمة باللغة العربية بالشكلين، كما أنها وردت في "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية "للدكتور عبدالوهاب المسيري في صفحة 450 على أنها "يهودا"، ولا يحتاج هذا الأمر أساساً الى مجرد التعليق!! سأبين للقارئ الآن بعض نماذج أخرى من النقد اللاموضوعي للسيد منى في معرض نقده للهوامش والمقدمة وذلك على سبيل المثال لا الحصر: قال في بداية مقالته اني "لا أتمتع بشرط الإلمام بمادة الكتاب" لأن تخصصي هو "السياسة والاقتصاد" على حد زعمه وهذا خطأ، فلم أتخصص في الاقتصاد بل ان كلمة "اقتصاد" لم تُذكر في التعريف بالمترجمة الوارد في آخر الكتاب، وقد أخفى السيد منى أن تخصصي الأساسي هو "التاريخ"، الذي حصلت فيه على درجة الدكتوراه، والأبحاث التي قامت بها والمدوّنة في آخر الكتاب توضح أنها حول تاريخ الصهيونية وتاريخ فلسطين. من الأمثلة الأخرى على الأسلوب المتعمد في التشكيك كما ورد في مقالة السيد زياد منى قوله: "ولا نفهم ما أوردته المترجمة في ص 22 من الكتاب حيث ذكرت بثقة ان العلماء الباحثين أجمعوا على أن احدى اللغات السامية هي العربية القديمة لأنه من غير الممكن معرفة ما قصدته المترجمة، علماً بأننا لم نعثر عليه في أي من الكتابات التي اطلعنا عليها". يقول انه لم يعثر على هذا في أي من الكتابات التي اطلع عليها. فالى ماذا يدل قوله هذا؟ انه يدل الى أن السيد زياد منى إما لم يقرأ الكتاب بعناية أو انه غير مطلع، أو انه تعمد حذف معلومات مدونة بكل وضوح في هامش تلك الصفحة من الكتاب، حيث أوضحت المصدر الذي اعتمدت عليه. وارجو من القارئ أن يسمح لي أن أنقل مع بعض التفصيل ما جاء في مقدمتي بهذا الشأن، حيث أوردت في صفحة 21-22 ما يلي: "فاللغة العبرية من الفصيلة السامية التي تنتمي اليها العربية والفينيقية والآشورية والآرامية وغيرها. واللغات السامية هي جملة اللغات التي كانت شائعة منذ أزمان بعيدة في آسيا وافريقيا وما تفرع منها، وتنقسم الى ثلاثة أقسام رئيسية: الشرقي الأكدي أو البابلي - الآشوري والغربي الكنعاني - الآرامي والجنوبي العربي - الحبشي. وتشمل اللغات السامية الغربية اللهجات الشمالية والجنوبية. فينقسم الفرع الشمالي الى شعبتين: الكنعانية والارامية. أما الشعبة الكنعانية فتتكون من الكنعانية القديمة والمؤابية والفينيقية، والعبرية والاوغاريتية أي لغة مدينة أوغاريت القديمة شمال اللاذقية، في راس شمرا وقد أجمع العلماء الباحثون على أن أقدم اللغات السامية هي اللغة العربية القديمة والأكدية والكنعانية". وقد ختمت الفقرة هنا بهامش رقم 7 في صفحة 22 يوضح ان المصدر هو: "المعجم الحديث عبري - عربي للدكتور ربحي كمال دار العلم للملايين ط1، 1975، بيروت. والدكتور ربحي كمال، رحمه الله، كان عالماً جليلاً في اللغات السامية القديمة ولا يحتاج الى تعريف للمشتغلين في هذا المجال. أما إذا كان لدى السيد منى أية انتقادات حول هذا الموضوع فيجب أن يوجهها الى هذا المصدر وليس الى المترجمة. ثم يتابع السيد منى نقده للهوامش فيأخذ علي اني استعملت "جنوب" بدلاً من "جنوبي". وأنا أناشد أي قارئ أن يشرح لي الفرق بين عبارتي "جنوب" و"جنوبي" و"يهودا" و"يهوذا"، إن كان بينهما أي فرق على الاطلاق. أما اشارته التي يتهمني فيها بأنني لا أعرف من يقصد المؤلف عندما أشار الى كوت ووايتلام Coote & Whitelam وقال ما يُفهم منه انه كان ينبغي علي التحقق من ذلك. لو كان السيد منى أميناً في تقويمه لكان من الأجدى أن يلحظ ما قلته في الصفحة 11 من المقدمة عندما ذكرت: "وينتقد وايتلام نفسه في أعماله السابقة لأنه وقع في هذا الفخ، وهو يفعل ذلك بأمانة شديدة ودقة بالغة في طيات الكتاب". وأيضاً ما جاء في هامش الصفحة 246 حيث أوضحت ما يلي: "من الجدير بالملاحظة هنا أن وايتلام، مؤلف هذا الكتاب، ينتقد نفسه في أعماله السابقة ويسلط الضوء على نقاط الضعف فيها". وأيضاً ما ورد في الصفحة 329 في هامش المراجع الدكتور فؤاد زكريا بنفس المعنى. فكيف أُورِد كل هذه التفسيرات إذا لم أكن أعلم من هو Whitelam تمام العلم؟ * المديرة السابقة للنشر في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت.