أدخل من البوابة الرئيسية للمعرض، يفتشني حارسان، الأول عربي، يسألني باللغة العبرية، الثاني، إسرائيلي، يسألني باللغة العربية، يفتشان حقيبتي. أدخل القاعة، تستقبلني على جانبي الممرات التي تقطع صالات العرض، أكشاك عربية وعبرية مختلطة، مرتبة بتناسق، على طول الطريق الذي أقطعه، اسمع، أصحاب أكشاك العرض، الذين فصل بينهم طريق ضيق، يتحاورون بعضهم مع بعض، يسألون بعضهم بعضاً، عن حجم المبيعات وأمور أخرى. ثم في الظهيرة، يذهبون معاً إلى كافتيريا المعرض، الإسرائيليون يلتهمون الأكل العربي والعرب الكوشا... الصورة التي رسمتها هنا، القريبة من اليوتوبيا، إن لم تكن حلماً غير قابل للتحقق، فهي تشبه الحلم، أن نستيقظ ذات يوم في ساعات الصباح الأولى، تدير الراديو لتسمع نشرة أخبار الصباح، فيطالعك الخبر ذاك، الذي يتحدث للمرة المليون أو أكثر، عن محاولة جديدة لحل أزمة الشرق الأوسط، وعن تبادل الاتهامات بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول خرق كل منهما لاتفاق السلام الذي وقعه الطرفان في أوسلو. إذا لن يتحدث عن هجوم انتحاري في مكان ما آمن في إسرائيل أو عن اجتياح الدبابات الإسرائيلية لإحدى القرى الفلسطينية. المتجول في معرض الكتاب الدولي في القدس، يرى صورة واقعية أخرى، يرى حراساً إسرائيليين يفتشون ما يحمله الزائر معه، يرى في صالات العرض المحلية أكشاكاً لكتب باللغة العبرية، ما عدا 3 منها لعرض كتب باللغة العربية، الأول كبير نسبياً، صاحبه صالح عباسي مدير مؤسسة"كل شيء"للنشر والتوزيع، الناشر الأول للكتاب العربي في إسرائيل، وخصوصاً للمكتبات العامة ومكتبات المدارس، وعنده يجد المرء كل الكتب الصادرة في بيروت والقاهرة. الكشكان الآخران صغيران، أولهما جلس أمامه سميح ناطور، رئيس مؤسسة"آسيا"للنشر في إسرائيل تصدر عنها مجلة ثقافية شهرية، اسمها"الأمامة"، الثاني جلس لديه مبعوث السلطة الفلسطينية من رام الله، وعنده يجد المرء كل الكتب الفلسطينية الصادرة في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن يتوقف عند كشك فلسطين، يلفت نظره إقبال الزوار عليه، وهم غالباً، إسرائيليون، يدفعهم فضولهم الى الحديث مع صاحب الكشك. كان يمكن هذا الكشك أن يبدو فعالاً أكثر، لو لم يقف عنده شخص واحد فقط، لو قدّم الفلسطينيون أنفسهم بفاعلية أقوى، وليس في هذه الصورة الوجلة. أمر غريب قلت لنفسي، المشاركات الفلسطينية تتم دائماً في هذا الشكل: قَدم هنا"مع السلام"وقدم هناك للرأي العام الرسمي في فلسطين والبلدان العربية. في لقاء الكتّاب والسينمائيين الإسرائيليين والفلسطينيين في المعهد المسكوني البروتستانتي للاهوت في القدس، الذي استضاف"لقاء من قمة تل"، بحضور الراعي الأساسي لهذا اللقاء، الناشر الألماني ستيفان فون هولتزبرينغ، سلك الوفد الآتي من الضفة الغربية السلوك ذاته. فإذا كان الكتّاب والفنانون القادمون من المناطق التي يقيم فيها عرب 1948 يجيدون الحوار مع زملائهم الإسرائيليين، ربما لأنهم اعتادوا الاحترام المتبادل أثناء الحوار وتبادل الرأي في القامة نفسها، فإن زملاءهم القادمين من رام الله، حيث الاختلاف يقود الى التحاور بالسلاح، حضروا اللقاء، وكأنهم حسبوا حضورهم مِنةً على الآخر. الكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، رئيسة مؤسسة السينما هناك، وزوجة سياسي فلسطيني مشهور، عمل سنوات طويلة مستشاراً للزعيم ياسر عرفات، قبل أن يعمل وزيراً في حكومة أبي مازن، ليانة التي جاءت من رام الله للاشتراك في ندوة دارت حول"السينما والأدب"، وكي تناقش"عرس رنا"، فيلمها الذي عرض هناك، مع فيلم فلسطيني آخر لتوفيق أبي نائل، القادم من تل أبيب، وفيلم"بوفورد"للإسرائيلي جوزيف كيسدار الذي حاز للتو على جائزة الإخراج في مهرجان برلين، منحت الانطباع في حديثها أمام الجمهور الكثيف الذي ازدحمت به القاعة معظمهم كتّاب وصحافيون من مختلف أنحاء العالم، وكأنها جاءت من أجل الحديث عن نفسها وإنجازاتها فقط، وكتبها المترجمة وتذهب. دخلت القاعة خلسة، مثل أي قائد فلسطيني، وكانت الندوة التي جمعتها بأربعة زملاء لها إسرائيليين، بدأت، ثم غادرت القاعة خلسة أيضاً، مثلما جاءت، مع سائقها، وكأنها أرادت القول، انها كانت مجبرة على التحاور مع إسرائيليين. قدم هنا وقدم هناك، فعل ذلك قبلها مثقفون فلسطينيون آخرون، ادوارد سعيد مثلاً، على مدى سنوات طويلة. باع سعيد هنا"في الغرب"، بضاعة حبه للسلام من طريق شراكته مع الموسيقار الأرجنتيني اليهودي الأصل، دانييل بارينبويم، حصد الجائزة تلو الجائزة. ولكن هناك"في البلدان العربية"، لا أحد سمع يوماً، بأوركسترا"ديوان غرب وشرق"، التي تجمع عازفين إسرائيليين وفلسطينيين. ولكن كيف يسمع المرء بالفرقة، إذا كان سعيد ذاته، ترك أبن أخ له يعزف البيانو هنا"في الأوركسترا"، ووقف مع ابن أخ آخر هناك"على حدود لبنان"، يعلّمه رميّ الحجارة على الجنود الإسرائيليين؟ التناقض هذا يمكن العثور عليه في كل مكان: في بار فندق المستعمرة الأميركية، الشبيه إلى حد ما ببار"ريك"في فيلم"كازبلانكا"، البار الذي حوّله زوار معرض الكتاب من كتّاب وصحافيين ملتقى ليلاً لهم. ما إن يعرف العاملون بهوية الزائر العربيةً، حتى يبدأوا بالتذمر من سياسة الاحتلال، ولكن عندما يسألهم المرء، كيف سيتصرفون اذا تسلمت"حماس"السلطة؟ فيجيبون حتى ذاك العامل الذي جاء هارباً من غزة قبل سنوات. كلا، إنهم فلسطينيون وسيتفاهمون بعضهم مع بعض. ويحلو للمرء ان يُذكرهم المرء، كيف سيتفاهمون، وقعقعة السلاح لا تزال تُسمع بين الأخوة في غزة وفي الضفة. الكلام الإنشائي السابق، الكلام الثورجي هذا، المصنوع للتسويق الخارجي، يعرفه الكثيرون منا، منذ الطفولة، حتى في درس الإنشاء المدرسي، عندما يطلب المعلم من تلاميذه الكتابة عن فترة العطلة الصيفية، لا بد للطلاب من أن يكتبوا عن فلسطين. كل شيء لفلسطين، الديكتاتور الذي يحكم مدى الحياة، يسجن ويقتل على هواه باسم فلسطين، الضابط الذي يضطهد الجندي في وحدته يحتقره باسم فلسطين، الديكتاتور الذي يدخل في حروب عدة، يفعل ذلك باسم فلسطين."طريق القدس يمر عبر عبادان"، كان الشعار الذي رفعه صدام حسين في الحرب الإيرانية - العراقية، قبل أن يستبدل لاحقاً، كلمة عبادان بالكويت. كل شيء باسم فلسطين، حتى أن الأمر وصل بالحكومة السورية، أن تُطلق على أحد سجونها اسم فلسطين. كل شيء باسم فلسطين، الهجوم على المثقف الذي يقف ضد العمليات الانتحارية ويدعو الى السلام والحوار يتم باسم فلسطين، تهمة العمالة التي تُطلق على من يزور إسرائيل، بغض النظر عن اسم الذي دعاه وكيف، تُطلق فوراً باسم فلسطين. عندما تقول، لكن، كيف سيكون هناك سلام من دون حوار مباشر، من دون التعرف الى حياة الآخر، يجيبونك، انهم الكتّاب الإسرائيليون الذين لا يريدون ذلك، ينسون إنشاءهم الفارغ، الذي قادهم الى العماء، حتى أصبح نطق كلمة أورشليم يشكل تهمة، يُدمغ صاحبها بالصهيونية، يُقال، أنه"نطقها كما تنطقها إذاعة إسرائيل". لا يعرف مثقفنا الجاهل حتى العظم، أن ملايين من مسيحيينا أو يكون هؤلاء خونة؟، ينطقونها بهذا الشكل: أورشليم السماء! السيد هولتزبرينغ، الذي كان وراء دعوتي إلى"أصوات من قمة تل: لقاء بين"كان"وسينمائيين إسرائيليين وفلسطينيين"، حدثني عن أمنيته في نقل هذا اللقاء إلى عاصمة عربية، قال، انه تحدث في هذا الأمر مع صديقه المصري، إبراهيم المعلم، رئيس اتحاد الناشرين العرب، لكن المعلم رفض الفكرة. ما لا يعرفه السيد هولتزبرينغ ان المعلم فعل ذلك، كي يبقى في منصبه"قروناً"أخرى، بالسوق الرسمية عندنا تتطلب"الثورجية"هذه. ومن يريد الحصول على منصب أو جائزة لا بد له من أن يتحدث عن"تحرير القدس"، وعن رفضه الجلوس مع" الكتّاب الصهاينة". على رغم ذلك، يقول السيد هولتزبرينغ، انه لن ييأس، قبل 3 سنوات بدأ وحده برعاية اللقاء السنوي، اليوم تشترك معه ثلاث مؤسسات أخرى: المعهد الثقافي الإيطالي، جمعية القدس الخيرية ومركز عمان للسلام والإنماء. اليوم يحلم بإقامة اللقاء هذا في بيروت، لأنها كما قال لي بوجد، اصلح العواصم العربية لمثل هذه اللقاءات. ربما بدت الصورة هذه أقرب لليوتوبيا، مثل صورة المعرض الذي ازدحم بأكشاك مشتركة. ولكن ألم يكن التجول في أزقة أورشليم القدس وأحيائها القديمة الأربعة: الحي البروتستانتي، الحي اليهودي، الحي المسلم، الحي الأرمني، بالنسبة لي، حتى أيام قليلة ماضية، أمراً أقرب الى اليوتوبيا منه الى الواقع؟ أمر له علاقة بأورشليم السماء على أكثر تقدير!