هل كانت المغنية فلّة في أصفى لحظات الصوت والمزاج خلال تلك المقابلة التلفزيونية حتى"قالت"و"قالت"و"قالت"بصوتها ما لا تستطيع قوله مغنية أخرى، بالغنى نفسه، وبالإتقان نفسه، وبالعاطفة الأدائية نفسها، وبالجمال نفسه؟ إنها فلّة الجزائرية، نسبة الى الجزائر بلدها الأصلي، وتالياً فإنها إذا انشدت اللون الجزائري الخاص فلن يكون صعباً عليها الإجادة. أما أن تتحول في لحظة براعة استثنائية الى مغنية أردنية تنشد اللون البلدي المحلي الأردني بكل ما فيه من الخصوصية و"التفاصيل"الدقيقة التي تتطلب امكانات من جهة، وإلماماً حقيقياً بالتموجات الصوتية المعروفة في بادية الأردن من جهة أخرى، فهنا المفاجأة. وتعظم المفاجأة حين يكون، على الخط الهاتفي معها في المقابلة، المغني الأردني البديع عمر عبداللات حيث ينشدان معاً أغنية أقرب الى الموّال، بذلك القدر من التفاهم الصوتي والانسجام والانسياب في سياق نغمي و"نوتاتي"نسبة الى نوتة، فهنا مفاجأة اضافية، تزيد من أهمية صوت فلّة، على اعتبار أن عبداللات ابن البيئة الغنائية الأردنية، وهو"يلعب"على أرضه كما تقول لغة كرة القدم، ومن"يلعب"على أرضه أدرى بكل التفاصيل والحيثيات والأسرار، أما فلّة التي هي ابنة البيئة الغنائية الجزائرية فليس سهلاً أبداً عليها اختراق"العالم"الأردني الغنائي في شكل يجعلها تبزّ أبناءه، جودة وصناعة أدائية، إلا اذا كانت على هذا المستوى من الجاهزية الاحترافية العالية. لقد اتقنت فلّة الجزائرية اللون المصري، على اعتبار أن تاريخ الغناء المصري المعروف هو في متناول الجمهور العربي في كل مكان، وتالياً فإنه لن يكون محفوفاً بأي خطر طريق المغنين والمغنيات العرب الى هذا اللون كونه يقيم في الذاكرة والحاضر إقامة ثابتة. إتقانها اللون الأردني البدوي، بدقة وبلاغة، هو الذي يمكن أن يكون محفوفاً بالخطر. أنشدت فلّة مع عمر عبداللات لا كمغنية خائفة أو مرتبكة أو متحسبة الوقوع في شراك"النشاز"، بل كمغنية مقتدرة، تؤدي عفو الخاطر، وعفو البديهة، وعفو الجمال. ولعل الميزة الجديدة التي قد لا يعرف الجمهور العربي ان فلّة تمتلكها، هي عزفها على البيانو كأنها من البارعين فيه. جلست الى البيانو ببساطة العلاقة الطبيعية معه في تلك المقابلة التلفزيونية. عزفت ثم عزفت ثم غنّت على عزفها ثم تحركت أصابعها على المفاتيح برشاقة فراشة تمارس عادة يومية لا بثقل أو بوطأة من يدّعي أمراً لا يفقهه. انها مفاجأة فوق المفاجأتين السابقتين. مفاجأة قد تشير الى أسباب ذلك التمكن الراسخ الذي ينضح به صوت فلّة في كل ما تغني. وثمة ميزة أخرى في غناء فلّة في تلك المقابلة، ففي حين كان شائعاً عنها أنها تحشر"الألعاب"أو"الحركات"الصوتية التي تتقنها، في مكانها وغير مكانها معاً في أغلب ما تغني، ما ينزع عنها البعد العفوي الذي يقرّب أصواتاً الى الذائقة الشعبية أو يبعدها، فقد تنبهت جيداً الى أن تبقى حرّة وتلقائية في ما غنّت، فبات صوتها ليس جميلاً جداً فحسب، بل خَطِراً أيضاً في طاقاته. يبدو أن الأصوات لا يتم اكتشافها دفعة واحدة، وفي أغنية واحدة، ولا في عشرات الأغاني حتى، خصوصاً الأصوات التي تعرف. فالمعرفة ثقافة تمنح صاحبها قدرة على التجدد من حيث لا يدري هو أحياناً... ولا نحن!