نَزَحَ المخرج السينمائي غسان شميط المولود سنة 1956 من الجولان السوري المحتل منذ أكثر من أربعة عقود، غير أن هذا النزوح لم ينزع من قلبه ذلك الإحساس المرير بفقدان الأرض، ومواطن الطفولة الأولى. بل أجج الذاكرة المنقطعة عن جذورها، فراح المخرج يستعيد فصول الألم عبر فيلمه الروائي الطويل الأول"شيءٌ ما.. يحترق"1993 الذي رسم عذابات النازحين، وصوّر سنوات الانتظار القاتلة! لم يستطع المخرج أن ينأى بسينماه عن هواجس"القضية"التي حملها معه، فجاء فيلمه الروائي الثاني"الطحين الأسود"2001 نشيداً شفافاً، موجعاً يرصد ملامح الحياة في بيئة سورية الجنوب السوري مغلّفة بالكثير من الطقوس، والأساطير، والأسرار. في فيلمه الروائي الثالث"الهوية"2007، الذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان تطوان السينمائي العام الفائت، عاد شميط، من جديد، ليطرح موضوعة"الاحتلال"من زاوية خاصة جداً، إذ يوظف الموروث الديني والاجتماعي لفئة من أهل المنطقة، ويتخذ من مسألة"التقمص"ذريعة للحفاظ على"الهوية"، ويجري ذلك على خلفية قصة حب حزينة. رسالة... جمالية يقر المخرج بأنه ينتمي"سينمائياً وفكرياً"، إلى المدرسة السينمائية السوفياتية التي وجدت في السينما رسالة جمالية لطرح"قضايا الإنسان"، وهمومه. وهو تخرج مطلع ثمانينات القرن الماضي من المعهد العالي للسينما في مدينة كييف، وتأثر بالأفلام التي ظهرت إبان"الحقبة السوفياتية"، ولعل سيرته الشخصية"القلقة"التي التقت مع تلك السينما"الملتزمة"، أهدته إلى لغة سينمائية مختلفة طبعت سينماه، ليس فقط في الروائية الطويلة، بل كذلك في أفلامه التسجيلية القصيرة مثل:"يوميات جولانية"،"البراعم"،"ورد وشوك"،"قلاع الشمس"،"أرض الياسمين"... وغيرها. يستعد شميط، الآن، للبدء في تصوير فيمله الروائي الطويل الجديد"الشراع والعاصفة"المقتبس عن رواية بالاسم ذاته لحنا مينه. وهو، وبالتعاون مع وفيق يوسف، أنجز كتابة السيناريو، واستطلع مواقع التصوير على الساحل السوري، وينتظر الحصول على منتج للاشتراك في التمويل مع المؤسسة العامة للسينما التي ترى أن موازنة الفيلم تفوق طاقتها وحدها، إذ تتجاوز ال 20 مليون ليرة سورية نحو 400 ألف دولار أميركي. وتقترح المؤسسة، بغرض تقليص التكاليف، الاستغناء عن مشاهد العاصفة التي تكلف، بمفردها، نحو سبعة ملايين ليرة سورية. غير أن المخرج يرى أن هذه المشاهد تشكل البنية الرئيسة للفيلم، لذلك فهو ينتظر الممول. هنا الحوار: لماذا اخترت"الشراع والعاصفة"في ظل وجود سيناريوات، وروايات أقل كلفة؟ - أنا معجب بهذه الرواية منذ أيام الدراسة، وكان حلمي أن أحولها فيلماً، فهي من أهم روايات مينه، بل من أهم الروايات في تاريخ الأدب العربي. من هنا، فهي هدف لأي مخرج كي يصورها سينمائياً، خصوصاً أن ثمة توجهاً برز في"مؤسسة السينما"، أخيراً، يميل نحو استلهام الأدب السوري للسينما. ومعروف أن مينه هو أحد أبرز الروائيين عندنا، فقد صاغ عالماً روائياً ثرياً، وغنياً، ملتصقاً بالواقع السوري، والعربي عموماً. كل هذه الأسباب جعلتني أفكر في أفلمة هذه الرواية المفعمة بالأحداث، والمتشعبة، والممتدة لفترة زمنية طويلة، وهي تحتاج إلى أكثر من عمل سينمائي. ألا تشكل هذه الرواية، إذاً، مغامرة في ظل الإمكانات المادية المحدودة ل"المؤسسة"؟ - راعيت هذا الجانب، واخترت خطاً درامياً واحداً كي يتم تصويره، إذ حاولنا التركيز على شخصية"الطروسي"، وهو نموذج للبطل الشعبي. لكن المشكلة أن أهم ما في الرواية هو"العاصفة"التي تعتبر ذروة العمل، والمؤسسة تحاول حذفها كشرط للانطلاق في التصوير، لكن الحقيقة انه لن يكون هناك فيلم سينمائي من دون مشاهد العاصفة. أفهم من كلامك أن هذا هو سبب التأخير في البدء بالتصوير على رغم الحديث المتكرر عن الفيلم؟ - بما أنك سألت، فلنعد إلى البداية. كان من المفروض أن تنتج الفيلم الأمانة العامة لدمشق عاصمة للثقافة، غير أن"الأمانة"اعتذرت لأن إنتاج الأفلام الروائية الطويلة لم يكن في برنامجها، فتبنته المؤسسة، وعلى هذا الأساس كتبنا السيناريو، واستطلعنا أماكن التصوير، وقدمنا تقطيع السيناريو النهائي. لكن المشكلة التي واجهتنا تمثلت في مشاهد العاصفة، المكلفة، أولاً، والصعبة التنفيذ في سورية، ثانياً، لذلك ارتأينا تصويرها في أوكرانيا، وبتمويل من شركة أوكرانية، لكن الشركة تراجعت عن قرارها لأسباب كثيرة بينها الأزمة الاقتصادية العالمية."المؤسسة"قررت، بدورها، تمويل الفيلم من دون مشاهد العاصفة المكلفة من وجهة نظرها، فرفضتُ، وفضلتُ الانتظار إلى حين العثور على ممول أجنبي أو عربي للمشاهد المذكورة. والمشكلة أن رواية، بهذا العمق والجدية، لا تغري، كثيراً، المنتجين الذين يبحثون عن الأرباح السريعة، ولا يهتمون بالنواحي الجمالية، والثقافية. عدل... لكنه غير فنّي "مؤسسة السينما"هي الجهة التي غامرت كثيراً في هذا الإطار، فلماذا تتهرب من فيلمك تحديداً، وهو فيلم يعبّر عن توجهات"المؤسسة"، تماماً؟ - هذا الكلام صحيح، وأنا أتمسك بمشاهد العاصفة، وفقاً لهذا التوجه الثقافي ل"المؤسسة"، وكي ننجز فيلماً افتخر، وتفتخر به"المؤسسة". لكن العائق هو أن الموازنة المرصودة ل"المؤسسة"محدودة جداً تغطي نفقات نحو ثلاثة أفلام في السنة، وهي تحاول أن توزع الموازنة، مناصفةً، بين هذه الأفلام، وهذا"التوزيع العادل"نظرياً، يفتقر إلى"العدل الفني"- إذا جاز التعبير - فثمة أفلام مكلفة جداً، وأخرى قليلة الكلفة، ولا يمكن وضعها"إنتاجياً"في سلة واحدة، بل على"المؤسسة"أن تراعي هذا الجانب، والمعروف أن فيلماً من مستوى"الشراع والعاصفة"يتطلب إمكانات مالية عالية نسبياً، قد لا يتطلبها فيلم آخر. رواية"الشراع والعاصفة"التي ذاع صيتها كثيراً ألا تشكل تحدياً للمخرج السينمائي، فالمُشاهد سرعان ما سيعقد مقارنة بين النص وبين الفيلم، والأرجح أن الفيلم لن يصمد أمام المقارنة؟ - من حيث المبدأ هذا الكلام دقيق، خصوصاً أن الرواية"الصادرة قبل سنوات طويلة، تركت تأثيراً كبيراً وواسعاً، لدى القارئ، كونها تشكل لوحة بانورامية حافلة بالشخصيات والأحداث للمجتمع السوري خلال الحرب العالمية الثانية. مع ذلك علينا أن نفصل، دائماً، بين الأدب والسينما، أو بين السرد والصورة، عندئذ ستكون المقارنة منطقية. بعبارة أخرى، على المشاهد أن يدرك بأن المخرج جسّد بالصورة ما قاله الروائي بالكلمات. والأفلام المقتبسة من روايات عالمية تختزل كثيراً الأحداث والوقائع، مع التزام بروح العمل. وهذا ما نسعى إليه في هذا الفيلم، فقد لخصنا مقولة العمل في ساعتين مصورتين، وتطلب ذلك جهداً شاقاً، ومراجعة للتجربة الروائية لمينه من زوايا عدة. ألم يتدخل مينه في وقائع السيناريو؟ ألم يحتجّ على هذا الاقتباس المختزل؟ - نحن حافظنا على الأفكار الأساسية في الرواية التي يبلغ عدد صفحاتها 400 صفحة، وأجرينا مقارنات مع أعماله الروائية الأخرى، ومينه، كما تعلم، كأديب وكإنسان، هو شخص دمث، وودود، ولا يدقق كثيراً في مسائل السيناريو والإخراج، وإنما أعرب عن أمنيته في أن يخرج الفيلم بأفضل صورة، لكنه ترك الحرية للمخرج مدركاً أن ثمة فروقاً بين السينما، وبين الأدب. الخسارة قدر لماذا يتصدى شميط، دائماً، لإخراج نصوص صعبة ومكلفة، وهو منشغل بهم سينمائي لا يتوافق مع شباك التذاكر؟ - إذا عدنا إلى تاريخ السينما العالمية سنلاحظ بأن المخرجين الذين نظروا إلى السينما كفن وكرسالة، قدموا أفلاماً خاسرة تجارياً، لكنها بقيت متألقة في ذاكرة السينما. فيللني، مثلاً، كان يجد صعوبة في العثور على ممول لأفلامه. ولدى مارتن سيكورسيزي، أيضاً، نجد أن شركات الإنتاج تمول أفلامه، وهي تعلم بأنها خاسرة تجارياً، لكنها تدرك ضرورة وجود مثل هذه السينما التي تتمتع بخصوصية، وجاذبية. نحن في سورية نقدم أفلاماً تتناسب مع مستوى الإمكانات التقنية والمادية المتوافرة، وحتى فيلم مثل"الشراع والعاصفة"هو غير مكلف كثيراً، قياساً إلى بعض السينمات الغنية. وإذا استعرضنا الأفلام التي أنتجتها"المؤسسة"منذ إنشائها، قبل أكثر من أربعة عقود، نجد أنها خاسرة تجارياً، فهي تتوجه الى جمهور النخبة، وتحمل هموماً وطنية وقومية. والواقع أن السوق الداخلية في سورية لا يمكن أن تسترد نصف قيمة الفيلم حتى لو كان الفيلم ذا طابع جماهيري. لذلك لا يمكن لنا الحديث في إطار"المؤسسة"عن معادلة الربح والخسارة. وبالنسبة إلي، اعتبر نفسي ابن قضية لم تحل حتى اللحظة، وقد خرجت من الجولان قسراً، لذلك توجهت بكاميرتي إلى البيئة التي خرجت منها، وهذه الهواجس هي التي منحت أفلامي نكهة حادة، ونافرة. ما ملامح الأزمة التي تعيشها السينما السورية، و"المؤسسة"؟ - هناك مشاكل في عرض الأفلام وتوزيعها، وهناك تقصير في موضوع الدعاية والإعلان والتسويق، بينما يصرف على هذا الجانب الملايين في دول أخرى. السينما سلسلة متصلة إذا فقدت حلقة واحدة فان السلسلة كلها تنفرط. وثمة كذلك الوضع العام الذي نعيشه، فالسينما بصفتها مقياساً لدرجة تطور المجتمع، لا تبتعد عن المشاكل الكثيرة التي نعاني منها، فمستوى دخل الفرد وما يعانيه على المستوى المعيشي يقف عائقاً أمام الذهاب إلى السينما، الذي يُعْتَبر، والحال كذلك،"ترفاً اجتماعياً". علاوة على أن وضع الصالات بائس. من جانب آخر، فإن تطور وسائل الإعلام والاتصالات يعد سبباً رئيساً في العزوف عن ارتياد الصالات، ففي مقدور محبي الفن السابع أن يشاهدوا أحدث الأفلام السينمائية على الفضائيات، أو على أقراص"دي في دي"... وسواهما من الوسائل المتوافرة بأيسر السبل. أين دور"المؤسسة"إذاً؟ - المؤسسة ضمن إمكانتها المتواضعة لا تستطيع أن تحل مشكلة السينما التي تعد مسؤولية وطنية على الجميع المساهمة في حلها، وثمة حاجة لنشر الوعي السينمائي، و"المؤسسة"متهمة، دوماً، لأنها الجهة الوحيدة المنتجة للسينما، والاتهام ليس دقيقاً، فلولا"المؤسسة"لما كانت هناك سينما سورية. نشر في العدد: 16765 ت.م: 27-02-2009 ص: 23 ط: الرياض