من شاهد الفيلم السينمائي الألماني"السقوط"الذي يروي الساعات الأخيرة من حياة الزعيم النازي أدولف هتلر، يدرك معنى أن تهيمن رؤية ايديولوجية عنصرية على ذهن ديكتاتور، فتخلف ملايين من القتلى والجرحى والمشردين من الأطفال والنساء والعجائز. انه التاريخ بأشد حقبه سواداً، الحرب العالمية الثانية والمعارك الضروس التي دارت بين جيوش ستالين التي تحاصر برلين وجيوش الرايخ الثالث المدافعة عنها. مشاهد تنبش في أدق التفاصيل، ويقدم الزعيم الألماني كإنسان يأكل ويشرب ويغضب ويحزن ويقبّل عشيقته ايفا براون، فالفيلم ابتعد عن الصورة النمطية للزعيم الألماني كقائد يباهي بشوفيته التي استهلكت كثيراً في السينما العالمية. ثمة توغل في شخصية هتلر، تقديمه كمهزوم يرفض أن يصدق هزيمته ويفضل الانتحار على أن يسقط أسيراً بيد أعدائه، فيوصي مساعده بإحراق جثته وجثة عشيقته بعد انتحارهما. سقوط برلين الذي برع مخرج الفيلم أوليفر هرشبيغل بتصويره بحمولة بصرية أظهرت حجم الخراب الذي أصاب المدينة، يصبح معادلاً لسقوط إنساني وأخلاقي عميم يتجلى بإقدام جنرالات هتلر على الانتحار، فنجد أحدهم يفجر قنبلتين تحت المائدة التي يتناول عليها مع عائلته الطعام فتتطاير أشلاء أطفاله من النافذة. والمشهد الأكثر قسوة هو دخول زوجة غوبلز وزير إعلام هتلر قبل انتحارها مع زوجها إلى غرفة أطفالها النيام ووضع حبة دواء سامة في أفواههم وقتلهم كي لا يعيشوا في نظام غير نازي كما تقول. هكذا تتفوق الايديولوجية على الإنسان وتقتل الأطفال، وحين يجمع جنرالات هتلر على الاستسلام حماية للمدنيين يرفض هتلر بشدة ويقول وزير إعلامه لهم:"هل تريدون أن يذكر التاريخ الفوهرر من دون مجد". نعم مجد الزعماء مصنوع من دماء الأطفال والنساء والشيوخ. يطرح الفيلم سؤالاً وجودياً عن الموت في سبيل فكرة والحياة في سبيل الإنسان، حيث يسأل الضابط العسكري أحد الأطباء الذين يتفانون في علاج المرضى، لماذا تريد أن تعيش؟ فيجيبه: لماذا تريد أن تموت؟ انه صراع الأسئلة بين الموت والحياة، تضاد المعاني وتعاكسها في متاهة من الرعب والدمار. تحسم نهاية الفيلم هذه الثنائية لمصلحة الحياة حيث نشاهد الطفل بيتر الذي منحه هتلر وساماً على شجاعته أثناء الحرب، يركب دراجة هوائية تقودها سكرتيرة هتلر ترودل جونغ التى عاصرت أدق تفاصيل النهاية وكادت أن تنتحر وهي ترافق هتلر فى لحظات الهزيمة لولا نصيحة ايفا براون لها أن تنجو بنفسها وتنحاز إلى الحياة. جونغ وبيتر ينطلقان على دراجة بعد نهاية الحرب، وكأن الفيلم يقول أن جونغ وبيتر الطفل الذي انغمس في الحرب ذاهبين إلى المستقبل لبداية تاريخ جديد لألمانيا، يحوّل حدث السقوط المدوي إلى فعل نهوض حضاري وعلمي وإنساني. هذه النهاية تشبه إلى حد ما، نهاية فيلم"حين ميسرة"للمخرج خالد يوسف والتي تصور العائلة التي أصبح الأب فيها مجرماً والأم مومساً والأطفال مشردين ذاهبين في قطار واحد من دون أن يعرفوا بعضهم، لكن الفارق أن أبطال حين ميسرة ذاهبون إلى المجهول، أما أبطال"السقوط"فإلى المستقبل، وهذا ما أثبته التاريخ، فألمانيا اليوم من أكثر الدول حضارة وأقواها اقتصاداً وعلماً، فيما العالم العربي غارق ببؤسه وتخلفه وجهله. ايلي عبدو - بريد الكتروني