كان لافتاً الحضور الكثيف لجمهور شاب لمشاهدة الفيلم الألماني "السقوط" للمخرج أوليفييه هيرشبيغل. ويظهر الفيلم الأيام الأخيرة في حياة هتلر والحصار الذي كان مطبقاً عليه وخسارته الحرب التي قادته إلى الانتحار. كما يبين الوجه الآخر لهتلر. الوجه البشري لوحش تسبب في قتل الملايين. وقد أثار هذا الفيلم حينما عرض في ألمانيا جدلاً واسعاً لا سيما مع حلول ذكرى إحياء المحرقة البولندية, والاحتفال بمرور ستين عاماً في 27 كانون الثاني يناير الجاري على تحرير معسكر أوشفيتز في جنوب غربي بولندا. تشدنا الأحداث التاريخية في هذا الفيلم منذ اللحظات الأولى, فعدا عن أسلوب المخرج المتميز والمتمكن, يلعب الفضول دوره للتعرف إلى وجه جديد لهذا الطاغية. وجه قد تشكل معرفته سلاحاً ذا حدين, وقد يكون فيه مكمن الخطر. يرسم الفيلم صورة لهتلر الذي لم يكن يقبل بكلمة "لا" من أي طرف كان, وهو محاصر في ملجأه المحصن تحت الأرض "بانكر" فيما يقترب الروس ويتهيأون لدخول برلين. ونراه من خلال أعين فتاة شابة تتقدم لمنصب السكرتيرة الشخصية له. وكان عنصر التشويق على أشده منذ المشاهد الأولى للفيلم حينما يفتح الباب ليخرج منه هتلر لمقابلة المرشحات. فكأن المتفرج هو هذه السكرتيرة التي تتحرق لرؤية هذا الذي طبقت شهرته الآفاق والتي تتهيب هذه الرؤية في الحين نفسه. بدا فوراً لطيفاً متفهماً, ومفاجئاً ليس للسكرتيرة فحسب وإنما للمشاهد. وتتتابع مشاهد من حياته اليومية التي يعيشها مع عشيقته التي أصبحت زوجته, وقادة أركانه المخلصين له لا سيما غوبلز من دون إغفال ذكر أولئك الذين تخلوا عنه. ويركز الفيلم على كل دقائق الشخصية الداخلية والخارجية, الجسدية والفكرية مبيناً انفعالاتها ومبرزاً تفاصيلها وتناقضاتها, بمرضها وقوتها, تسلطها وضعفها, خيبتها وغضبها, علاقاتها من خلال مواقفها وقراراتها والعبارات النارية التي تصبها على المحيطين" لم أدخل أكاديمياتمثلكم ولكنني غزوت أوروبا كلها" يقول هتلر وهو يعنف أركان حربه والهزيمة تقترب. أو حينما يصرخ في معرض رده على الذين توسلوه ليترك برلين كي يدخلها الجيش الروسي من دون معارك وتتم المحافظة على أرواح المدنيين "ليس مهماً تعرض الشعب الذي يخسر الحرب للهلاك لأنه لا يستأهل أكثر من ذلك". ما يبرزه الفيلم من نواح في شخصية هتلر: إصراره على الصمود, حزمه في اتخاذ القرارات, لباقته بل وحنانه مع سكرتيرته, عشقه لايفا براون, عفوه عن أحد وزرائه الذي لم يطبق أوامره بالحرف... ومن مواقف مرافقيه المتسمة بالشجاعة والالتزام والإخلاص حتى اللحظات الأخيرة على رغم اقتراب النهاية المحتومة. وكل هذا يحمل المتفرج على التوقف طويلاً والتأمل أطول. ففي مقابل هذا الوجه "البشري", لا يبدو الوجه الآخر" الوحشي" على القدر نفسه من الأهمية. ربما لأنه معروف للجميع, ولأن سعي المخرج منصب في الأساس على إبراز الوجه البشري لهتلر. وفي تبريره لذلك يقول المخرج في مقابلة معه "الاستمرار في إعطاء هتلر ملامح وحش غير واقعي أخطر بكثير من كشف وجهه البشري". لكن, وعلى رغم اعتماد الفيلم الواقع والحقيقة التاريخية فمع شخصيات على هذا القدر من الخطورة, يجب اتباع الحذر الشديد عند الحديث عن جوانبها "الإنسانية". لأن التذكير بوحشيتها بل وجنونها يجب أن يبقى متوازناً وحاضراً بالمقدار نفسه. ولم تكن بعض المشاهد لبرلين المحاصرة وسقوط المدنيين ومعاناتهم جراء قرارات الديكتاتور التضحية بهم كافية لموازنة الصورة الأخرى لهتلر "الإنسان" فهي التي طغت ورجحت, إذ بدت تلك المشاهد ضعيفة أمام قوة شخصية هتلر وحضوره الطاغي وتأثيره السحري على من حوله حتى اللحظة الأخيرة. كما أن إبراز الفيلم لمواقف المحيطين به والذين آمنوا به "كقائد" مثالي يحمل كل الخير والمنفعة لبلده! قد يثير الإعجاب والسؤال عن الذي دفعهم حقاً إلى الإيمان بهتلر والتعلق به هذا التعلق "المجنون"؟ بل تشبث يدفع بأم, زوجة غوبلز, للتضحية بأطفالها وتسميمهم" لأن العالم لن يستأهل أن يعاش فيه بعد هتلر!!". شخصية هتلر بدت هنا شديدة التعقيد برع الممثل السويسري برونو غانزنز في أدائها الى درجة كبيرة ما جعل البعض يتهمه بأنه أضفى" أكثر مما ينبغي من الإنسانية" على شخصية الزعيم النازي. وقد عبر المخرج كلود لانزمان مخرج فيلم المحرقة عن ذلك أحسن تعبير في معرض هجومه على الفيلم" حينما نشاهد هتلر في هذا الفيلم, نود الاقتراب منه وتفهمه. علينا ألا نحاول تفهم مثل هؤلاء. إن الجرائم التي ارتكبها تتخطى كل المبررات التي يمكننا إيجادها له".