"الرز يقول أنا النوتي، نزلت البحر بنبوتي لقيت الحُب مشبوكي خلصته برمش عينيه". لا تتذكر سلمى على وجه اليقين هل هذا ما كانت تغنيه أمها بصوتها العذب حين فاجأتها بوجهها الغارق في الدم... هي غير متيقنة من هذه النقطة، إلا أنها تتذكر أن ثريا صرخت وهي تحتضنها بملابسها التي اتسخت بفعل الطين والدماء، وأدخلتها خلسة من الباب الخلفي كي تنقذها من براثن جدتها. لسنوات طويلة لن تنسى سلمى طعم الدم المختلط بالتراب الذي لم تفلح المياه التي تغرغرت بها عشرات المرات وهي تستحم أن تبدده. ظنت وقتها أن هذه اللحظة لن تُمحى أبداً من ذاكرتها، كما لن تُمحى ملامح الهلع التي ارتسمت على وجه أمها وهي تلتفت حولها خوفاً من حماتها. كان اليوم هو أحد السعف السابق لشم النسيم، خرجتْ مع ماريز وجميلة لسرقة البصل الأخضر من الحقول، في هذا اليوم يعرفُ الفلاحون الذين يزرعون البصل أن حقولهم ستكون هدفاً سهلاً للأطفال الذين لا يبيتون ليلتهم إلا ورأس بصل واحد على الأقل تحت وسادتهم، يستيقظون باكراً متسابقين لإلقائه في النيل قرباناً له كي يحميهم من الكسل ويبعد عنهم الشرور واللعنات حتى شم النسيم التالي. اتجهت سلمى ومعها ماريز وجميلة إلى حقل مجاور للنيل. اختبأن وسط نباتات الحلفا وذيل القط حتى اختفى صاحب الحقل، فانطلقت كل منهن تحاول انتزاع ما تقدر عليه من بصل أخضر، وفجأة عاد الرجل. نجحت ماريز وجميلة في الفرار، في حين أمسك بسلمى، وكي يجعلها عبرة للآخرين، قيّدها إلى شجرة كافور على رأس حقله، من غير أن يلتفت الى صراخها وعويلها. لم يطلق سراحها إلا حينما عرف هوية أبيها. سارت وهي ترتجف من شدة الخوف. كانت غير قادرة على رؤية الطريق أمامها بوضوح. انزلقت قدمها في منطقة خطرة. وقعتْ واصطدم وجهها بالأرض الصلبة قبل أن تتدحرج مرات عدة فوق التراب. ستظل تتذكر هذه السقطة، ومعها كل الارتطامات والضربات التي تعرضت لها كأنما تؤرخ لنفسها فقط بهذه الصدمات ولا شيء غيرها. صدمات الطفولة والظلمة الحالكة المحيطة بها هي أبرز ما تستعيده دائماً. هو الظلام الذي يحدد كل حياتها ويؤطرها... ظلمة دامسة لا يخترقها أي شعاع ضوء، ظلمة يكللها عواء ذئاب بعيدة ونباح كلاب هائجة، نقيق ضفادع ونعيق بوم يجلب الشؤم، حين تجهد ذاكرتها وتلمعها مثل مصباح قديم لا يأتيها سوى العتمة: تختفي مصابيح الكيروسين، وقد جلست النسوة لتنظيف زجاجها بورق الجرائد المبلل ببصاقهن... الكلوبات الشديدة الإضاءة التي تجذب الناموس وحشرات الليل صيفاً للالتصاق بزجاجها قبل دخول الكهرباء الى القرية. تتلاشى الجلسات الليلية تحت ضوء القمر، ولا يتبقى إلا الظلمة المحيطة بالبيوت والتي تحوِّل الشجر على طول الطرقات إلى أشباح هائلة الحجم تستعد للانقضاض عليها وحدها. الصباح كان مملكتها التي تمدها بالقوة. بفضل تدليل أبيها وأعمامها لها تكون هي الطفلة الصغيرة ملكة متوجة على كل من في البيت، لكن ما إن تبدأ الشمس في الغروب والانزواء حتى يزحف الخوف إلى قلبها. مع الحلول التدريجي للظلمة تفقد قدرتها تدريجاً حتى تتحول في النهاية إلى فأر مذعور يمسك بطرف جلباب أمه تابعاً إياها أينما ذهبت بحثاً عن بعض الأمان. تختفي بقية أطفال البيت خلف أبواب الغرف المظلمة وفي بئر السلم، وحين تمر الفأرة التي هي سلمى متتبعة خطوات أمها، يجذبون ضفيرتها الطويلة بقوة فتصرخ من الرعب وتنطلق الأم في سبّ الملاعين الذين ينغصون حياة طفلتها الهلعة دوماً. يخترع خالد وهيام حواديت مخيفة عن"أم ديل"الجنية التي تطارد الأطفال لتأكلهم، ويكون على سلمى أن تعاني طوال ليالي طفولتها في أحضان تلك الجنية شاربة الدماء. لم تكن جبانة، على العكس من ذلك اتسمت منذ سنواتها الأولى بقدر كبير من الجرأة والشجاعة بفضل تربية أبيها لها. ورثت عنه مهارة التجار ومكرهم. وهي في الرابعة من عمرها، نهرها عمها جابر بعنف على خطأ اقترفته، فصرخت فيه مهددةً بألا يرفع صوته فيها مرة أخرى من دون أن تخشاه، الأمر الذي أسعد أباها كثيراً! غير أنها كانت ضعيفة تماماً أمام مخاوفها الميتافيزيقية التي لازمتها منذ الطفولة حتى الكبر، كان خيالها هو لعنتها الأولى... امتلكتْ خيالاً جامحاً يحول أبسط الأشياء والرموز إلى خيالات مخيفة وأشباح مرعبة. طوال حياتها عاشت في حرب ضد خيالها... حرب ضد نفسها. لقد ربّى رشيد ابنة مدللة قادرة على مواجهة أشد الأشخاص بأساً لو أرادت، إلا أنها ضعيفة وهشة أمام مخاوفها الصغيرة واللاعقلانية. حين كانت العائلة تعيش كلها في بيت واحد تحكمه جدتها رحمة، اعتاد جابر أن يعترض على طريقة رشيد في تربية سلمى وتدليله المبالغ فيه لها، إلا أن هذا الاعتراض لم يزد أخاه إلا إصراراً على مواصلة ما يفعله. كان واثقاً من أن ابنته مختلفة عن الآخرين... أكثر ذكاءً، أشد موهبةً ربما. كان يؤمن بها أكثر من إيمانه بأي شيء آخر في الحياة، لم تكن لهذا الإيمان مبررات غير قدرتها منذ كانت في الثالثة من عمرها على سرقة الأنظار إليها والاحتفاظ بالآذان مصغية لها بغض النظر عما تقوله... لكل هذا كانت صدمتها شديدة حين انتهى بها الأمر كأي فتاة عادية أخرى، تعمل في وظيفة مملة بلا أفق واعد، وتفشل في تحقيق حلمها بالاختلاف الذي راهن عليه والدها. لا تتذكر سلمى تحديداً ما فعله الرجل بها بعدما قيدها إلى الشجرة، هل ضربها أم لا؟ وما مقدار المدة التي قضتها على هذا الوضع؟ تبدو تلك النقطة ككثير من ذكريات طفولتها مبهمة وغامضة، أو بالأحرى متعددة الوجوه بحيث تتذكرها كل مرة في شكل مختلف وتفاصيل أخرى. أحياناً مثلاً يأتيها وجه أمها الخائف من حماتها، وهي تحتضنها بملابسها الملوثة بالطين والدماء، وتتخيل أن كل ما يخص هذه اللحظة محفور في ذاكرتها، لكنها تعود فتتذكر أن جميلة كانت تعيش وقت هذا الحدث في بيت العائلة بعد زواج أمها من جابر، وهو ما يتنافى مع وجود رحمة على قيد الحياة. ذلك أنها لم تعترف أبداً بهذا الزواج، ورفضت دخول بشرى وابنتها الى البيت طالما بقيت هي حية، وهو ما حدث فعلاً، فجابر لم يحضر زوجته الجديدة وابنتها للسكن في بيت العائلة إلا بعد وفاة أمه، وبعد ذلك بمدة وجيزة كان رشيد قد بنى بيته الأبيض الفخم لينتقل بأسرته إليه ومعهم شقيقته"نظله"، في حين جدد جابر بيت العائلة وبقي فيه. لا يُعقل أيضاً أن ماريز كانت مع سلمى وجميلة، لأنها كانت تسافر دائماً لقضاء الأعياد ومنها عيد القيامة مع أسرتها في قريتهم الأصلية في أسيوط. ها هي ذاكرة سلمى تعود لإفساد كل شيء. * مقطع من رواية تصدر قريباً وتحمل العنوان نفسه. نشر في العدد: 16762 ت.م: 24-02-2009 ص: 30 ط: الرياض