ما التاريخ الذي يمكن فهمه إلا ظل للقدر الذي لا يمكن فهمه. يتحوّل الطرفان، وقد تداخلا، إلى صياد أعمى قاسي القلب، لا تفعل معه شجاعة الإنسان الشجاع شيئاً. ولعل سطوة القدر، التي تبدد إنساناً يريد أن يظل موحّداً، هي التي تنشر في الفضاء سخرية سوداء عالية الأصداء. هذا ما أراد قوله ربيع جابر في عمله الأخير «دروز بلغراد: حكاية حنا يعقوب» (المركز الثقافي العربي، دار الآداب، بيروت، 2011)، تاركاً لحكمة الخطاب الروائي، الذي يقرأ الإنسان في جهاته المتعددة، أن تأتي بقول يقنع الإنسان - الطريدة أن في عرض الطريق ما يعطي الإنسان العَطِش حفنة ماء. يفتتح ربيع روايته بإشارة أدمنها «الروائيون: «هذه الرواية من نسيج الخيال وأي شبه بين أشخاصها وأحداثها وأماكنها هو محض صدفة». والإشارة ساخرة، ذلك أن العنوان الأول في الصفحة الأولى يحدّد المكان والزمان: و «الجبل الأسود - 1872»، والإشارة ساخرة مرة ثانية، ففي نهاية الرواية مراجعها التاريخية الدقيقة، التي يستشيرها الخيال الخصيب ويدع «الأحداث والأماكن» صارخة الوضوح. ترجم الروائي احتجاجه الساخر، تقنياً، باستدعاء مقطع «الجبل الأسود - 1872»، الموجود في نهاية الرواية، (ص: 209 - 212) إلى مستهلها، مصرحاً بأن المقطع الوارد مرتين بداية للقول الروائي ونهاية له. نقرأ فيه: «أين العدل؟ هناك محابيس تحتي أيضاً، لم أجب لئلا يعرفوا من صوتي المخنوق أنني أبكي، وأن الباب فتح لكن الظلام لم يتغيّر، أمد أطرافي مرة أخرى ومثل حيوان لا يفهم أتشبّث بالرجل المذعور، ...». كل شبه بين الشخصيات وغيرها محض صدفة، يقول المفتتح الروائي، لكنها صدفة لها شكل القانون، يقول المتن الروائي، ذلك أن نوافذ الإنسان على الحياة مغطاة بالشوك واللهب، مثلما أن دروب الحياة في قبضة صياد أعمى يدعى: القدر. تحمل رواية ربيع عنواناً مركباً: «دروز بلغراد»، العنوان الأول الذي لا تنقصه الهجنة، و «حكاية حنا يعقوب» التي تعهّد القدر بخلقها، وزهد بها في اللحظة الأخيرة. عاد جابر إلى ذاكرته الروائية، التي صاحبت طويلاً «جبل لبنان» في القرن التاسع عشر وما جاوره، وتأمل معركة «عين دارة» وما تلاها 1860 من زاوية جديدة، واقتفى آثار «550» درزياً، عاقبهم السلطان بمنفى إلى طرابلس الغرب وبلغراد، لن يعودوا منه إلا أمواتاً أو بقايا بشر. غير أنه أراد أن يضيف إلى عماء التاريخ، الذي يمكن فهمه، صدفة عمياء قرّرها القدر الصيّاد، ضحيتها المسيحي البريء «حنا يعقوب»، الذي صيّرته السلطة المستبدة، التي لها مع القدر أواصر قربى، إلى لبناني درزي وأرسلته إلى عذاب طويل، عمره اثنا عشر عاماً. عبّر ربيع، وهو يكتب عن «الدروز في بلغراد»، عن إخلاص الأحياء للأموات، وعبّر في حكاية «البريء المظلوم» عن سخريته السوداء. وزّع الروائي «دروز بلغراد» على منظورين، وأضاف إليهما ثالثاً يمحوهما، كما تمحو الأمواج آثاراً على الرمال. فصفات هؤلاء الدروز، في منظور ملحمي، من صفات «الأجداد» كما تأمر بها الرواية التاريخية، يعملون ويحسنون العمل ولا يقتربون من الشكوى، يتكافلون ويتكاملون وتجمعهم روح ناصعة واحدة، ويتقنون الحديث مع الأرض والسماء والفصول الأربعة، ويتفقون على الحشمة والكرامة والكلام الدافئ القليل، وتلقي عليهم الشجاعة تحية عطرة. غير أن تكاملهم الأخلاقي، الممتزج بالصبر والتحمّل والدمع المستتر، لا يقودهم إلى طريق جدير بهم، ولا يضع بين أيديهم ما هم خليقون به، بسبب القدر - الصيّاد، الذي لا يفرّق بين النار والرماد. ولهذا تنحسر صفة الملحمي، الحاضرة والغائبة والتي تصاحبها الشجاعة والانتصار معاً، ويقاسمها المكان صفة أخرى: البطل التراجيدي، الذي يسلبه القدر طريقه ويرمي به الموت. لكن ربيع جابر، الساخر المترصّن في سخريته، يربك الصفتين بصفة ثالثة صعبة التعيين وأقرب إلى: عبث الوجود، الذي تواجهه الكتابة الجادة وتخرج منتصرة. يذهب «البطل الدرزي»، ملحمياً كان أم تراجيدياً، إلى موت لم ينتظره، تحسمه طلقات غير متوقعة، أو يقع عليه حمل أعمى، أو تلتهمه طريق لا يعرف ملامحها، وقد يغوص في وحل له طعم المذلة. يظل من الأجداد حكايات الأجداد، التي تحاول الكتابة حفظها بكتابة نجيبة، يكتسحها النسيان بعد زمن. وإذا كان هؤلاء الأبطال قد بدّدهم الطريق، فإن في حكاية المسيحي البريء «حنا يعقوب» ما يجسّد المغترب النموذجي، الذي خرج ولم يعد، مؤمناً بأن للخروج والعودة شكل البداهة. يبدو المغترب، الذي أعادت السلطة - القدر خلقه، إنساناً حلّت عليه لعنة لا مبرّر لها. يعيش المغترب - الملعون عذاب «إنسان آخر»، أجبر على حمل اسمه وأقداره، وأجبر على قبول ولادة جديدة، تمحو الولادة الأولى. عطف ربيع جابر، في مستوى أول، الملحمي والتراجيدي على عبث الوجود وعطف، في مستوى آخر، الدنيوي العاري على الديني المتعالي، الذي يرى في آثاره ويظل محتجباً. بيد أن جابر، وباقتدار حكيم أقرب إلى الندرة، اشتق من المستويين عالم الروح الإنسانية في ألوانها كلها: التعب والراحة، الفرح والحنين، الأمل والبكاء، الجوع والامتلاء، المرض والصحة، القوة والضعف، القنوط والمقاومة، الفقد والشوق، وأصابع القدر اللاهية الهائلة التي تدمّر القامات والبيوت وتشعل النار في الماء والحطب والحجارة. ومع أن الرحلة محايثة، زماناً ومكاناً، للحكايات الفردية والجماعية، الممتدة من بيروت إلى قبور مطمورة أو مكشوفة، فإن موهبة ربيع جعلتها، ببساطة خادعة، رحلة إلى أقاصي الوجع الإنساني القرية من جهنم، رحلة متعددة المراحل، إذ في السجن المظلم ما يوقظ الشوق إلى النور والحرية، وإذ في القاعة الباردة الفقيرة من الأبواب ما يستحضر دفء العائلة، بقدر ما أن في حفر القبور ما يستدعي أطياف الطفولة. استولد الروائي من الرحلة في المنفى - المتاهة رحلات في فضاء العقل والقلب، واستولد من أحوال المغترب الباكي متواليات الطبع الإنساني. فلكل مكان روح تناجيه، ولكل فقدان كلمات تحاوره، ولكل بكاء متوحّد صمته وكلامه المؤجل. لغات واضحة وأخرى عطل وضوحها وجع لا يحتمل. لا غرابة أن يدنو الروائي من شخصياته، يواسيها ويقاسمها ألماً صامتاً، وأن يمزج كلماته بالمناجاة والرثاء والتأمل الغامض، وأن يستبّد به الإشفاق ويترك الكلمات مبتورة معلقة في الضباب. ولعل تقصير المسافة بين المخلوق المعذب والروائي الذي احتضنه، هو الذي وضع في الرواية نثراً مشرقاً متعدد الطبقات، كما لو كان الراوي يستنطق اللغة وهو يساوق رحلة الألم إلى تخومها الأخيرة. السرد الطليق أفضت عوالم الروح المتوالدة من توالد التجربة إلى إلغاء الحدود بين السرد الخطي، الذي ينصاع إلى الحدث والانتقال، والسرد الطليق، الذي يدع الشخصيات في مكانها، ويرتحل بعيداً إلى تأمل لا أبواب له ولا جدران. ولهذا يأتي الزمن التاريخي، محيلاً على سلطات متعاقبة وعذاب لا ينتهي، ويرتحل سريعاً، معطياً المكان للزمن الأصلي، الذي هو زمن الإنسان الذاهب من تعب إلى انتظار، ومن بكاء في هزيع الليل إلى فرح صباحي يتقسمه مع المحاصرين. بل أن في نص ربيع جابر الخصيب والمحتشد بالإيحاء، ما يسمح بحديث عن جغرافية المكان، التي تحتضن بلغراد وأدرنة وكوسوفو والدانوب وصوفيا وحلب...، وجغرافية الروح الإنسانية، حيث الوديان والسهول والجبال والغابات والمستنقعات مرايا لما يكدّر القلب ويشعل الذاكرة ويهصر الروح.. جغرافيتان تؤنسان السرد، ويخلق السرد منهما طبقات منفصلة ومتصلة الذاكرة معاً. شيء قريب من نبع ظاهر وديع، يذهب في الأرض بعيداً، مخترقاً الرمل والتراب والصخر، وينبثق من جديد، وقد أخذ مذاقاً مختلفاً، وملمساً يشبه الماء وما هو بالماء. أقام ربيع جابر فضاءه الروائي على سرد خطي ومتقطع في آن: تابع في سرده المستقيم أقدار الذين قتلهم طريق لم يرغبوا به، شدهم إليه وتحملّوه وفاجأهم بموت غير متوقع، وقطع السرد ، منفتحاً على اللامتوقع وعلى الألم الذي جاوز حدوده. ولهذا تقرأ الرواية مثل حكاية كبيرة واضحة المبتدأ أو المنتهي، وتقرأ كجملة وحدات حكائية لها استقلالها الذاتي - النسبي، الذي يعترف بصوتها المفرد، ثم يذيبه في صوت واسع متعدد الأصداء. أخذت كل وحدة حكائية عنواناً خاصاً بها، يمايزها من غيرها ويربطها بها: (حيطان جودت باشا)، المكان الذي يحيل على سجن وعقاب، فإن مرت عليه عيون الجلادين أخذ صورة أخرى: (حيطان جودت باشا - 2)، فإن غامت فيه عيون السجناء واكتسحهم الرعب تجلى بعد ثالث (حيطان جودت باشا - 3)، وتتكاثر الحيطان من جديد حين يمتزج الرعب بدماء أكثر من قتيل. ربما يظهر السرد المستقيم - المتقطع واضحاً في «حكاية مصطفى مراد وبناته الثلاث»، التي تضيء قدر سجين بقدر سجين آخر (كيف تصدر التعاسة على غير موعد؟)، وتستولد من القدرين برهاناً على عماء الوجود (ما الحكمة من رعاية حقل وإحراقه قبل الحصاد؟). إذا كان الوجود السوي يدع السنابل الممتلئة الرؤوس تقترب راضية من الأرض، فإن الوجود الأعمى يحرق الحقول ويستبقي الحجارة. ساءل ربيع الوجود في شكلية، ووزّع الإجابة على الحكايات والثلوج وتغيّر الفصول والعيون الإنسانية المطفأة. إذا كان لكل نص روائي فلسفته، فما هي الفلسفة الأدبية الصادرة عن «دروز بلغراد»؟ تقول فلسفة النص بصدفة عمياء منتصرة، تسحق البشر ولا تنظر إلى عيونهم، وبضرورة فقيرة تنجي من الهلاك: ضرورة لا غنى عنها كي يستمر الوجود، وفقيرة هي لأن الذي نجا من عذاب شديد لم يقترف إثماً. والمحصلة تشاؤم ورضا يثير الرثاء، حال «حنا يعقوب»، الذي أكمل دائرة العذاب وعاد إلى عائلته ناجياً، من دون أن ينجو، فقد سلبه الدهر أجمل أيام شبابه. والمعنى كله في هذه الدورة الخائبة المجانية، التي تأخذ من الإنسان طمأنينة معطاة، وتعوّض عنها بعصا يتكئ عليها وبجلد مدبوغ يستر عريه. أشياء كثيرة في «دروز بلغراد»، وعلى خلاف رواية «أميركا»، تذكر بفلسفة نجيب محفوظ التي ترمي على متسكع خالي البال حجراً يكسر مفاصله، وتطلقه مرهقاً يبحث عن شفاء لا يصل. وبسبب ذلك تبدو السلطة المستبدة، في نص ربيع جابر الجديد، قريناً للصياد الأعمى الذي التبس بالقدر، أو التبس القدر به، فكلاهما يعتاش من تسوية الإنسان بالأرض وتكثير القبور. والفرق بين محفوظ وربيع جابر، أن الأول يبدأ متشائماً قبل أن يرسل بشخصياته المنتظرة، بينما يبدأ ربيع فرحاً، قبل أن تصل شخصياته إلى موت لا هرب منه. ما التاريخ إن كان «صاحبنا اللبناني» مأخوذاً بالوثائق التاريخية، وبما عاشه البشر وحفظته الكتابة؟ ليس التاريخ إلا رهاناً على خير جميل المحيا لا ينتصر، فالشر البليد يصرعه دائماً، وليس التاريخ إلا أبواب السجون الصدئة، التي رمت بسجين على بقايا سجين واحتفظت، دائماً، بسلطة قاتلة ممتلئ بالعافية. تبدو الكتابة كلاماً مكسور الجناح، يحفظ الدروس الحزينة والذكريات، ويتقي المطر خائفاً على أوراقه من البلل. أمّا الرواية التاريخية، التي توحي بها كتابات جابر، فلا وجود لها، فهي رواية من دون تعديل، تبدأ بالإنسان المغترب وتنتهي به، بل إنها لا تبدأ بالإنسان إلا لترى اغترابه، تاركة المعارك الكبرى والمواقيت والأسماء للمؤرخين، الذين لا يميزون بين الحبر ودماء الأبرياء. جمالية السرد والمعرفة الدقيقة والمتخيل المدهش الطليق وسخرية حكيمة تتناثر في الهواء،... هذه هي العناصر التي بنى منها ربيع جابر روايته الأخيرة، الأكثر فتنة وإتقاناً وعمقاً في مساره الروائي الخصيب حتى اليوم. ولعل جغرافيا البلقان، التي رسمها في روايته، كما تاريخ البلقان الذي ضمنّه عمله، يشهدان على الجهد الاستثنائي لهذا الروائي الغريب، الذي أراد في روايته أن يكون روائياً وجغرافياً ومؤرخاً معاً وقد أضاف إلى الصفات الثلاث رؤيا متصوفة، ترى الإنسان في أكوانه، وترى الكون في جماله السريع وسديمه الذي يوقظ فضول المعرفة. «مد يده إلى قعر البئر لكنها لم تقبض على ذكرياته. أرقده في القبر على جنبه باسم المحيا ظاهر العظم، طمروه بلا حزن، وبدوا في نور الصباح خالدين. عيون الأرانب تأملت حنا وهو يبكي بلا صوت. نظر إلى النوافذ حمراء في نور الغروب وبكى بلا انتباه. ضاعفوا نزلاء السجن أربع مرات في سنتين وأمّنوا عمالة رخيصة..» يجسّد هذا الأسلوب معنى الكتابة، ويوطد المعنى بكلمات مقتصدة، ويبني من المعنى المقتصد الكلمات عالماً واسع الدلالة وفسيح الأرجاء. إن كان في جمال القمر ما يثير في الكسيح شهوة المسير، فإن في نص ربيع جابر ما يوقظ الفكر ويوسّع آماد الروح.