أجابت انتخابات مجالس المحافظات في العراق نهاية الشهر الماضي عن اسئلة عدة، لكنها تركت اسئلة اخرى معلقة على جولات اخرى من الصراع السياسي الذي سيتجلى بوسائل مختلفة بينها صناديق الاقتراع في انتخابات كركوك وإقليم كردستان والاستفتاء على الاتفاق الامني قبل ان تنشب مواجهة الانتخابات العامة نهاية هذا العام التي لم تتمكن الانتخابات الاخيرة من حسم نتائجها. وفيما كان تقويض حقبة فيديرالية الوسط والجنوب وتأكيد جاذبية المركزية السياسية والشعارات الوطنية من السمات البارزة التي افرزتها الانتخابات الاخيرة، فإن مرحلة اعادة الحسابات وترتيب الاولويات تمهيداً لانتخابات نهاية العام ستتطلب اكثر من مجرد التأسيس على الانتخابات الاخيرة باعتبارها اداة قياس مفروغ منها. وقريب من جدلية الخاسر والرابح، فإن الانتخابات حصدت لجبهة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الكثير من المكاسب، لكنها وضعت هذه الجبهة في نطاق اختبارات عصيبة، فيما اسست وعياً جديداً لدى جبهات اخرى وجدت نفسها مجبرة على إحداث استدارات كاملة في استراتيجياتها للحاق ببيئة سياسية تبدو اليوم اكثر من اي وقت مضى طيّعة للتشكل والتجسد وسهلة المنال امام الشعارات الكبيرة. لا ريب في ان بين 10 الى 38 في المئة من المصوتين في بغداد ومدن الجنوب الشيعية انتخبوا المالكي ولم ينتخبوا حزب الدعوة الاسلامي، اصالة عن انتخاب الامن والسلم الاجتماعي قبل انتخاب المالكي كزعيم سياسي. وفي الجانب الآخر، كان 48 في المئة من ناخبي الموصل قد استجابوا لمخاوف التمدد الكردي في المدينة ولم تنفع تطمينات الاحزاب الكردية في تخفيف وطأة الاعتقادات التي بدت راسخة حول النية الكردية استقطاع مساحات من محافظة الموصل لضمها الى اقليمهم، فانتخبوا اكثر الأطراف انتقاداً للسياسات الكردية قبل ان ينتخبوا قائمة"الحدباء"وممثليها. وأمام تلك المعادلة المعقدة سيكون على الخاسرين والرابحين الخوض في اعادة حسابات لا تقل تعقيداً قبل الشروع في استراتيجيات جديدة او التمسك بالقديمة. الاسلام السياسي مع اليوم الاول لظهور النتائج الاولية للانتخابات كان الوصف الذي حاول الاقتراب من تحليل ما جرى على الارض في العراق هو افتراض تراجع الاسلام السياسي في مقابل تقدم قيم الليبرالية السياسية. هذا الوصف دعمته الاحزاب الفائزة ضمناً حين طرحت نفسها بعيداً من ردائها الديني ضمن قوائم بشعارات اهملت اي اشارات دينية لتخلط الاوراق قبيل الانتخابات وتستثمر متغيرات جوهرية بدت واضحة على الشارع العراقي باتجاه نبذ تجربة تسييس الدين ومذهبة السياسة. وعدا محافظة الموصل التي ظهر فيها الصراع القومي والإثني وتجاذبتها قوتان، احداهما عربية والاخرى كردية تبادلتا الاتهامات بالشوفينية القومية، فإن احزاب الاسلام السياسي فرضت في الواقع نفوذها على معظم المدن العراقية فاحتلت بين 80 الى 90 في المئة من مقاعد محافظاتجنوبالعراقوبغداد الدعوة والصدر والمجلس الاعلى والاسلامي في مقابل هامش ظهر في اقوى صوره في محافظة كربلاء بفوز شخصية مستقلة غير دينية لن تؤثر في النهاية في خريطة المجلس. لكن العشائر والاحزاب الليبرالية التي لم تنجح في تحقيق مكاسب حقيقية في مدن جنوبالعراق حققت هذه المكاسب في المناطق السنية التي كانت حتى وقت قريب مرتعاً للمجموعات المسلحة المتطرفة مثل الأنبار وصلاح الدين وديالى. وبإهمال قضية شكاوى واتهامات التزوير، وفي حدود تقويم المفارقة المنهجية بين توجهات الشارع العراقي الذي عكست استطلاعات الرأي وبعضها اعدته الحكومة ميله الى انتخاب الاحزاب العلمانية والليبرالية وما افرزته نتائج الانتخابات من تقدم واضح للأحزاب الدينية الموجودة على الساحة منذ ست سنوات، فإن محورين للتفسير يفرضان نفسيهما: الاول: ان نحو 50 في المئة من الاصوات التي تشتت بين المرشحين المستقلين وغالبيتهم العظمى من الليبراليين المستقلين خدم الاحزاب الاسلامية التي خدمها ايضاً ضياع نحو مليون ونصف مليون صوت ممن حرموا من الانتخاب لأسباب مختلفة وأكثر من ثلاثة أضعاف هذا العدد ممن اختاروا عدم التصويت اساساً. والثاني: ان الناخب العراقي اختار من بين الاحزاب الاكثر تنظيماً ونفوذاً وقدرة واقعية على المواجهة في المحافظات ما يظهر في شكل واضح في القوى الدينية في مقابل ضعف وتشتت افقي لأعداد كبيرة من المرشحين الليبراليين. لكن كلا الافتراضين يهمل حقائق اساسية، منها: - ان الاحزاب الدينية ما زالت فاعلة وقادرة على الحشد الجماهيري. - ان تلك الاحزاب أجبرت على عدم استخدام الشعارات الدينية بسبب طبيعة الصراع الذي بدا شيعياً ? شيعياً او سنياً ? سنياً بسبب الطابع الجغرافي لانتخابات المحافظات. - ان الاحزاب الدينية نجحت في الاحتماء خلف الشعارات غير الدينية، فلم يتم الحديث عن حزب"الدعوة"بديلاً من"ائتلاف دولة القانون"الا بعد الفوز في الانتخابات، كما لم يتم الحديث عن"حزب الاحرار"باعتباره تشكل من قيادات تيار الصدر وليس من مستقلين الا بعد ظهور النتائج، فيما ان قائمة مثل الرافدين في كربلاء سارعت بعد الانتخابات الى اعلان قربها من المجلس الاسلامي الاعلى الذي ظهر باعتباره الحزب الوحيد الذي لم يغير برامجه وشعاراته واستخدم الآليات والايحاءات الدينية نفسها في دعاياته الانتخابية. - ان الاحزاب الحكومية ما زالت الاكثر قدرة على استثمار امتيازات المؤسسات التي تسيطر عليها لتنظيم بقاء طويل الامد، ما ظهر واضحاً في الفارق بين حجم الدعاية الهائل للأحزاب المرتبطة بمؤسسات رسمية وبين الاحزاب والقوائم خارج الحكومة. نتائج اولية يمكن الحديث اليوم عن تراجع لافت للمجلس الاسلامي الاعلى في الجنوب كممثل لشعار فيديرالية الوسط والجنوب باعتباره نتيجة اولية واضحة للانتخابات، فيما يمكن الحديث ايضاً عن تراجع للأحزاب الكردية في محافظات الموصل وصلاح الدين وديالى من السيطرة على 50 الى 70 في المئة من الحكومات المحلية في تلك المحافظات الى نيل ما بين 25 في المئة في الاولى و 4 في المئة في الثانية و17 في المئة في الثالثة، ما يطرح بقوة مراجعات سياسية قوية عن اسباب هذا التوجه المعادي للأكراد ونتائجه الخطيرة على المدى البعيد. وكانعكاس لهذا التراجع، اصبح نحو 14 محافظة عراقية من بين 18 تدار عملياً ولمدة اربع سنوات مقبلة برؤية تقترب من الايمان بالحكومة المركزية القوية على حساب المشروعات الفيديرالية، وتلك ابرز نجاحات جبهة رئيس الوزراء العراقي الذي سيستثمر هذا الواقع للمضي في سياسة المواجهة السياسية التي اعتمدها منذ بداية عام 2008. لكن المشروع الفيديرالي في جوهره لم يقص تماماً من المعادلة السياسية، يدعمه في ذلك دستور يضع خيارات مفتوحة امام المحافظات للبحث عن اطار فيديرالي لحكمها في اي مرحلة ويكرس آليات لا تعتمد مفصلياً على مجالس المحافظات في تحقيق الاستفتاء على الاقليم وإنما على امكانية اي حزب سياسي جمع 10 في المئة من الناخبين خلف فكرة الاقليم لعرضها على الاستفتاء الذي سيقلب بدوره معادلة الانتخابات رأساً على عقب. ومقياس المراهنة على عودة النشاط الى مشروعات مثل اقليم الوسط والجنوب او الاقليم السني او اقليم الجنوب او حتى اقليم البصرة مرهون بنجاح مجالس المحافظات الحالية في إحداث تغيير جوهري في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعقدة في العراق. ومع تراجع كبير في الموازنة العراقية 30 في المئة عام 2009 وتوقعات بتضاعف العجز في الموازنة خلال عام 2010 تصبح فرص إحداث الاصلاح خلال مدة زمنية محدودة بعيدة المنال. والمشكلة التي ستواجه الفائزين ان الانتخابات العامة نهاية العام الجاري سيكون معيارها الرئيس هذه المرة النجاح او الفشل في ادارة المحافظات، ما يضع حسابات الخاسرين امام فرص مضاعفة. وعلى رغم ان الانتخابات الاخيرة وضعت رئيس الوزراء العراقي في موقف مريح خلال مواجهته الرئيسة مع خصومه وحلفائه في الحكومة وخارجها، فإن ذلك الفوز يرفع مستوى القلق في جبهة الرافضين للمركزية الحكومية والقلقين اساساً من نجاح المالكي في كسب النقاط والمراكز والصلاحيات لمصلحة تقوية سلطته وضمان بقائه لأربع سنوات مقبلة على رأس الحكومة العراقية، بل والمضي في تأسيس"نمط حكم ديكتاتوري". وتبدو حسابات ما بعد انتخابات المحافظات اشد تعقيداً من المرحلة التي سبقتها. فتحالف المجلس الاعلى والاكراد والاسلامي الذي يحاصر طموحات المالكي يبدو اليوم مرتاباً بمستقبل الوزن السياسي لأقطابه في الحكومة المقبلة 2010 التي تتجه المعطيات العراقية الى تركيز سلطاتها في يد جبهة المالكي. وتلك الحقيقة لا يخفيها أنصار إضعاف سلطة الحكومة المركزية، بل ان نسق الاتصالات السياسية التي جرت بعد الانتخابات يشير الى تفعيل الخيارات الخطرة ومن بينها إحياء مشروع عزل المالكي الذي ما زال متاحاً في التركيبة البرلمانية الحالية. انقلاب دستوري وقائي رئيس الوزراء العراقي الذي سارع الى التقرب من اعداء الامس وفي مقدمهم الزعيم الشيعي مقتدى الصدر وفتح خطوط اتصال واسعة مع العشائر يحصن مركزه داخل البرلمان العراقي ويضع خيارات الانقلاب الدستوري في اقل احتمالاته. بل ان تغييراً استراتيجياً في خطاب المالكي خلال الانتخابات وبعدها اوضح بلا لبس انه يتجه الى استثمار الطاقة السياسية والشعبية الرافضة للمحاصصة الطائفية والسياسية في الحكومة لإحداث انقلاب دستوري وقائي ضد القوى المتهمة بتكريس المحاصصة. وفيما كانت اهم معطيات قضية اقالة رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني رغبة الاحزاب السياسية المتخندقة داخل الحكومة ضد المالكي بعدم السماح بإحداث تغييرات دستورية يدعمها رئيس البرلمان لمصلحة تقوية السلطة المركزية امام الاقاليم من جهة وضد نظام التوافق الاجباري التقليدي من جهة ثانية، فإن المعركة التي ساهم بها حزب المالكي نفسه كانت تقف في وجه اختيار رئيس برلمان جديد من الجبهة الاخرى يسهم بدوره في إحداث تغييرات دستورية تضعف من قدرة حكومته على حيازة المزيد من الصلاحيات. اتصالات يتم تسريبها في شكل مضطرد تشير الى ان تفاهمات حدثت بالفعل لإحداث انقلاب دستوري عاجل وطرح اسم رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي للمرة الاولى مدعوماً من ألد اعدائه المجلس الاسلامي، بل ان علاوي يحظى للمرة الاولى بمقابلة نادرة مع المرجع الشيعي علي السيستاني لم يحظ بها وهو رئيس للوزراء في العراق! وعلى رغم ان تلك التسريبات لا تبدو رصينة لاعتبارات عدة، وتدحضها مخاطر الفصام السياسي بين الحكومة المركزية المفترضة ما بعد التغيير والحكومات المحلية التي افرزتها الانتخابات، فإن التلويح بورقة التغيير السياسي ظهرت في شكل صريح على لسان قيادات في الحزب الاسلامي في معرض اتهام حزب"الدعوة"التابع للمالكي بالتنصل من تعهداته لاختيار رئيس برلمان من داخل"الاسلامي"، والتلويح بوصول مساعي تغيير الحكومة الى الرقم 134 صوتاً برلمانياً من 138 يحتاجها مثل هذا التغيير. المالكي بدوره لن يسمح بتحول حكومته الى كبش فداء في مناورة سياسية كبيرة كتلك تتيح للقوى المتخندقة ضده اقناع كتل العلمانيين والسنّة والصدر والفضيلة داخل البرلمان بتغيير جذري في الحكومة. والنقطة الحرجة ان المالكي الذي يحاول الاقتراب من الجهة التي صنفت برلمانياً باعتبارها معارضة للحكومة لن يتمكن عملياً من منح تلك الجبهة اي امتيازات حكومية لترصين تحالف معلن معها. وهو سيحتاج في حال اختار ضم"العراقية"والمنشقين عن جبهة التوافق والصدر والفضيلة 80 مقعداً برلمانياً الى جبهته رسمياً ان يحدث تغييراً سياسياً في حكومته خلال عام 2009، ما يعد من ضمن الامور المستحيلة في ضوء احتكار الجبهة المنافسة لمنظومة"مجلس الرئاسة"بأكملها... وهي منظومة وإن كانت غير تنفيذية، الا انها مفصلية في قبول او رفض أي إجراء حكومي، بل وتمتلك حق الدعوة الى حل البرلمان وفق شروط دستورية معينة. الاستمرار في الفصام السياسي الذي يعانيه العراق منذ اكثر من عامين بين التداخل في مفهوم المعارضة والحكومة يضع البلاد امام اختبارات صعبة. فالأطراف السياسية الرئيسة الثلاثة المجلس والحزبين الكرديين والاسلامي تسيطر على 90 في المئة من الحكومة و100 في المئة من مجلس الرئاسة وأكثر من ثلث مقاعد البرلمان وهي تتخذ موقف معارضاً للحكومة ممثلة برئيسها. والمالكي الذي شكل عملياً حكومة ظل من مستشاريه يتخذ موقفاً معارضاً لحكومته ايضاً، بل ويتجه الى التحالف مع معارضي الحكومة ضد حلفائه فيها! وسلوك المعارضة السياسية الذي اربك المسؤوليات وخلط الصلاحيات والاوراق ما زال يضع امكانات التحسن الامني والتوافق السياسي في مهب رياح الصراع السياسي، بل ان دعوات واضحة وجهت أخيراً الى حكومة الرئيس الاميركي الجديد باراك اوباما لتفهم مخاطر الوضع العراقي المعقد وعدم الاستعجال في انسحاب مبكر قد يعجل بدوره في انطلاق حملة تصفية سياسية واسعة وغير محمودة العواقب. في المقابل، فإن ارتفاع مستوى المخاطر في مواجهات عام 2009 يتيح حيزاً ما لإحداث توافق سياسي يهدف الى انهاء مرحلة الجبهات المعارضة ولو موقتاً بانتظار ما ستؤول اليه نتائج انتخابات نهاية العام التي ستشكل بدورها جوهر التحركات السياسية للاطراف العراقية، وستدفع رغبة الفوز فيها او على الاقل منع طرف معين من الفوز، الى اعادة تقويم منهجي قد يتطلب تغييرات في المسارات السياسية وفتح منافذ لتكوين جبهتين صريحتين تمثلان الواقع السياسي العراقي، احداهما تتبنى فلسفة توزيع السلطة والتوافق بين المكونات وعدم السماح بتعاظم قوة المركز، والاخرى تدعو الى سلطة قوية فوق سلطات الاقاليم والمحافظات. والخبر الجيد ان اياً من الجبهتين الصريحتين ستضطر عملياً الى عدم اعتبار التخندق الطائفي هدفاً نهائياً في الحكم او وسيلة لبناء التحالفات التي تخوض على أساسها الانتخابات، على رغم ان الشعار الطائفي والقومي لن يكون متوارياً، بل صريحاً هو الآخر، لكن بتجليات تحاول مواكبة الاهداف السياسية من دون ان تضللها. نشر في العدد: 16753 ت.م: 15-02-2009 ص: 35 ط: الرياض